في السياق الحداثي الآخذ في التحول عن المطلق نحو النسبي، أخذت النظرة إلى الدين في التغير من تلك النظرة القديمة المحافظة إلى أخرى جديدة متوثبة، فبدلاً من السيادة المطلقة لما تسميه مؤرخة الأديان البريطانية، الراهبة السابقة، كارين أرمسترونغ (منطق الروح)، أخذ منطق العقل يكرس حضوره على صعيدي: فهم الدين، وممارسة التدين. وهو أمر حدث تدريجياً، على نحو بطيء، حتى أن القائمين به لم يكونوا واعين به، ولم تتضح حقيقته كاملة حتى تراكمت التغيرات الصغرى في صورة طفرة كبرى صارت واضحة في التعبير عن (الروح الحديثة). وربما لهذا كان الأوائل الذين شقوا الطريق إلى ما عرف بعد ذلك باسم الحداثة، يعتقدون وهم يمارسون نشاطاتهم هذه أنهم يبحثون فقط عن طرائق جديدة للتدين وليس لإلغاء الدين تماماً، أو حتى مجابهته، بل إنهم اعتبروا اللحظات الحاسمة التي شهدت اكتشافاتهم الحديثة بمثابة لحظات ربانية، كما اعتبروا إنجازاتهم نفسها وليدة العناية الإلهية. ففي جل المكتشفات الجغرافية التي قام بها رحالة أوروبيون كان الله حاضراً، وخدمة المسيح ورسالة الصليب قائمة في مركز تفكيرهم، رغم أن هؤلاء جميعاً كانوا يؤسسون للنظام الرأسمالي الوليد بعد قليل، والمتوسع بعد ذلك والذي ساهم في تكريس الاقتصاد الحديث، ونمط الإنتاج الصناعي الذي كرس للعقلانية الاقتصادية، ومن ثم الحداثة الشاملة. فمثلاً، بدأ البرتغاليون رحلتهم للدوران حول رأس الرجاء الصالح، باسم الصليب، ورداً على العرب المسلمين الذين اجتاحوا أوروبا سلفاً، فاستقروا في الأندلس، واحتلوا صقلية وكريت زمناً، وحاصروا معظم شواطئ أوروبا الجنوبية، وسيطروا على حركة التجارة في البحر المتوسط، ما يعني أنهم تصرفوا وكأنهم أصحاب حملة صليبية جديدة. وأما الذين اكتشفوا العالم الجديد في الأميركتين، فكانوا يشعرون داخلهم بأنهم يفتحون باسم الرب، وينشرون رسالة المسيح بين شعوب همجية لا تعرف المسيح ولا الحضارة التي هي بالضرورة مسيحية في ذلك الوقت، قبل أن تصبح (غربية) في حملات الغرب الاستعمارية بعد ذلك نحو الشرق الأقصى الآسيوي، والمشرق العربي الإسلامي. وعلى المنوال نفسه كان عالم الفلك البولندي كوبرنيكوس في مطلع القرن السادس عشر، يعتقد أن علمه (إلهياً) أكثر منه (إنسانياً) عندما أعلن فرضيته الثورية وهي أن الأرض ليست مركز الكون، بل إنها تدور هي والكواكب الأخرى حول الشمس، وأن تصورنا عن حركة الأجرام السماوية ليس إلا نتيجة لدوران الأرض في الاتجاه المعاكس. بل إن بابا الفاتيكان وافق عليها عندما عرضت عليه للمرة الأولى، ولم يجد كالفن ما يعيبها. وعندما تمكّن عالم الفيزياء الألماني يوهانز كبلر مطلع القرن السابع عشر من توفير الأدلة الحسابية على صحتها كان يشعر بنوع من (الجنون الإلهي) يتملكه وهو يكشف عن أسرار لم يسبق لأحد من أبناء البشر أن تمتع بمزية الإطلاع عليها. وعندما قام الفلكي جاليليو جاليلي، المعاصر لكبلر، بإجراء اختبار عملي تجريبي لتلك الفرضية من طريق رصد الكواكب بالتليسكوب، كان مقتنعاً بأن بحوثه مستلهمة من رضا الرب ورحمته. أي أنهم كانوا لا يزالون قادرين على رؤية عقلانيتهم العلمية (الحديثة) متسقة تماماً مع الرؤية الدينية (التقليدية). ومع ذلك كانت تلك النظرية بمثابة ضربة قاصمة للفكرة المستقرة في أذهان العالم التقليدي، ذلك الذي صاغته الأساطير في المبتدأ، والأديان في المنتهى. صاغته الأساطير في عالم بدائي لا يرى ولا يعرف غالباً سوى الأرض، فكان ذلك أقرب لديها إلى حدس بديهي، لا يحتاج إلى تفسير. واعتمدته الأديان إما لأن الكتاب المقدس بعهديه قال به، أو لأنه وافق الرؤية الإسلامية للوجود، والمضمنة في قصة الخلق التي يتشاركها القرآن مع الكتاب المقدس، مع تباين في التفاصيل. مصدر التوافق أن ما يمكن اعتباره الرؤية التوحيدية للوجود اعتبرت الإنسان خليفة لله في الأرض، سيداً للكائنات. وطالما أن الإنسان سيد الكائنات، ومركز العالم، فإن الأرض التي يعيش عليها هي الأخرى مركز الكواكب، التي يتوجب أن تدور حولها، كما يدور الكون حول العالم الإنساني. وعندما اكتشف نيوتن قوانين الجاذبية الأرضية، وكذلك قوانين الحركة، التي صاغت الفيزياء الحديثة، وأنتجت نظرة جديدة للكون، هي أقرب ما تكون إلى الثبات واليقين، فإنه نفسه اعتبر ذلك دليلاً على وجود الله، فطالما أن الكون الكبير بهذه الدقة وذلك الانتظام، فهو من خلق كائن أسمى صنعه بدقة تضاهي دقة صانع الساعات السويسري. وكان الأمر لديه بسيطاً جداً: فطالما أن دقة الساعة تدل على الصانع، فإن دقة الكون تدل على الخالق، بل إنه اعتبر كشفه العلمي نتاج عناية إلهية، ألهمته تأملاته التي تلت ملاحظته العابرة لسقوط ثمرة التفاح. وفي الفلسفة أيضاً، سار الأمر على المنوال نفسه، ففي مفتتح الفكر الحديث كان ثمة (عقلانية مثالية) لا تكترث بالواقع التجريبي كما هو الأمر لدى ديكارت، الذي تورط في الادعاء بقدرته على تقديم البرهان على وجود الله بقدرته نفسها على تقديم البرهان الخاص بتساوي طرفي معادلة رياضية، يفترض أنهما متعادلان يقيناً. وهو إدعاء تأسس على الفيزياء الكلاسيكية السابقة على نيوتن، وعلى قاعدة المنطق الأرسطي القائل بوحدة الحقيقة، والقائم على مبدأ عدم التناقض، فالصدق أبدي، وكذلك الكذب، والصحيح أبدي وكذلك الخطأ، فكل طرف من طرفي هذه الثنائية هو خبر عن حقيقة أبدية لا تتغير. لقد قدم ديكارت المنهج الشكي للفلسفة الحديثة نعم، ولكنه شك يهدف إلى اليقين، لدى رجل بدأ حياته قساً أو راهباً، واتخذ العقل مطية لترسيخ الإيمان، وليس شكاً وجودياً حقيقياً كالذي سوف نطالعه بعد ذلك، في مراحل متقدمة من سيرورة الحداثة. بل إن حركة الإصلاح البروتستانتي، التي أفضت في النهاية إلى العلمانية السياسية، أدت إلى تلك النتيجة عبر متتالية صاعقة لم يكن مخططاً لها بدئياً، بدأت بالحروب الدينية التي استغرقت أكثر من القرن، وولدت عديد المآسي التي أصابت الناس بالشك في جدوى إيمانهم، وصولاً إلى حرب الثلاثين عاماً، فصُلح وستفاليا (1648م) الذي وضع الأساس للدولة القومية الحديثة، التي أجهزت بدورها على السيطرة البابوية من ناحية، والميراث الروماني الإمبراطوري من ناحية أخرى، والموروث الإقطاعي من ناحية ثالثة، وأعادت، من ثم، صوغ المجال السياسي الحديث لعالمنا. لقد بدأت كحركة دينية، تنطلق من إيمان طهراني، وكان رائدها الأول مارتن لوثر متزمتًا دينياً، يخشى الموت والعقاب إلى درجة الرُهاب، ودائم البكاء كلما قرأ آيات الموت، خصوصاً المزمور رقم 90 من العهد القديم، من الكتاب المقدس، ولكنها أفضت في النهاية إلى علمانية سياسية، أعادت صوغ العلاقة بين الدين والدولة، في نموذج صار منوالاً تنسج عليه الدول الراغبة في بلوغ الحداثة السياسية خارج الغرب المسيحي حتى اليوم. قدم هؤلاء جميعاً، أي المكتشفون والفلاسفة والعلماء ورجال اللاهوت، تأملاتهم الجديدة على حافة التماس بين منطق الروح ومنطق العقل، أي بين الدين والعلم، أعملوا العقل ولكن كمؤمنين، ولم يكن ثمة تناقض واضح بعد بين المنطقين، ولكن بذور الشك كانت قد أُلقيت، وكان الزمن كفيلاً بإنباتها وازهارها في ما بعد، وفي شكل تدريجي. لقد رحل المحدثون الأوائل من دون إدراك لطبيعة التغير الذي أحدثوه في رؤية الناس للكون والإنسان والله، لا لشيء إلا لأن ما قدموه كان مجرد بداية في سيرورة طويلة لم يكونوا قادرين على استشرافها كلية، ولم تكن هي كافية لإشعارهم بما حققوه. وربما لذلك يمكن القول إن الذين دشّنوا الروح الحديثة ليسوا هم الذين أعلنوا انتصارها، فما بين هؤلاء وأؤلئك جهود أجيال لم تكن قد بذلت، وربما دماء وأشلاء لم تكن قد أريقت بعد. فمنذ بدأ العالم في التغير، والمخترعات تتكاثر، والروح العلمية التجريبية تزدهر، والنزعة العملية البراجماتية تنتشر، أخذت الرؤية الكمونية الساكنة تذبل، والمجتمعات تعيد تأمل ذاتها، تتخلى عن روابط قديمة لتصنع أخرى جديدة، وفي القلب منها أخذت تسود النظرة الجديدة إلى الدين والكنيسة الكاثوليكية بالذات، مجتمع المؤمنين، وجسد المسيح، فكان الإصلاح الديني الذين أراق دماء غزيرة، ولكنه لم ينتهِ إلا بميلاد نظرة جديدة للعالم، وأفكار حديثة عن الله والمجتمع والفرد. في هذا السياق، هل يمكن لنا أن نفهم محاولات بعض المفكرين المتأسلمين تجذير كل المفاهيم الحديثة: العلمية والسياسية في القرآن الكريم مثلاً، ضمن المقولتين الرائجتين (أسلمة العلوم) و (الشورى الإسلامية)، حيث إن كل كشف علمي له أصل في القرآن، وإن ذكر بإيجاز على سبيل الإعجاز. والديموقراطية الليبرالية ليست سوى الشورى كما وردت في آيات القرآن الكريم، باعتباره محاولة يائسة للتوفيق بين منطقين مختلفين، وعالمين متضادين؟. وهل يعني ذلك أن الثقافة العربية الإسلامية المعاصرة لاتزال تحيا في ما بين القرنين السادس والسابع عشر الأوروبيين، حائرة بين التقليد والحداثة، لم تحسم موقفها بعد، ولم تدرك طريقها إلى المستقبل؟. وما عدد الأرواح التي ستزهق، وكمية الدماء التي ستراق، على جسر العبور من هذا الشاطئ، إلى الشاطئ الآخر، عبوراً إلى المستقبل. * كاتب مصري