سعى الباحث أحمد إبراهيم القضاة في كتابه «نصارى القدس» الصادر أخيراً بالتعاون بين مركز دراسات الوحدة العربية والهيئة المصرية العامة للكتاب، إلى تقديم خريطة شاملة للجماعات المسيحية التي استوطنت مدينة القدس، متتبعاً تاريخها منذ نشأتها القديمة حتى نهاية القرن التاسع عشر، معتمداً على الوثائق التي توفرت له عن المسيحيين في ظل الدولة العثمانية خلال القرن التاسع عشر، راصداً في كتابه - البالغ عدد صفحاته 320 صفحة من القطع الكبير - تسع طوائف مسيحية اعترفت بها السلطنة العثمانية، وفي مقدمها الروم الأرثوذكس الذين كانت تعد كنيستهم أسمى الكنائس، نظراً لعدد التابعين لها - أكثر من عشرة ملايين من رعايا الدولة العثمانية - ولما منحته روسيا لها من حماية، ولانتشارها في مدينة القدس من قبل الفتح الإسلامي، ومن ثم فقد حظيت ببطريرك يُنتخب من بين أعضاء الطائفة، ويُصدق على انتخابه بمرسوم سلطاني، ثم تليها طائفة الروم الكاثوليك التي انشقت عن الأرثوذكس عام 1724، فاضطهدت من الأرثوذكس والدولة العثمانية التي ما كانت تعترف بالطوائف المنشقة عن أصول لها، فضلاً عن اعتبارها الأرثوذكس مواطنين عثمانيين بموجب المرسوم الصادر من محمد الفاتح عام 1454، الذي أعطى الحرية الدينية لطوائف السلطنة وأقر لها حرية اختيار رئيسها، بينما كان الكاثوليك قلة وفي أغلبهم من رعايا الدول الأجنبية على رغم أنها سورية المنشأ، وظلت هذه الطائفة غير معترف بها حتى تدخلت حكومتا فرنسا والنمسا لدى السلطان محمود الثاني عام 1833، فأصبح البطريرك الكاثوليكي يُعين بموجب مرسوم براءة من السلطان العثماني، أما طائفة الأرمن فهي أقدم بكثير، إذ اعترف بها العثمانيون كملّة عام 1461، وذهب القضاة إلى أن هذه الطائفة من أكثر الطوائف الدينية اعتدالاً وغنى، نظراً لعمل التابعين لها في التجارة، وقد كانت إلى فترة طويلة تضم في جنباتها الطوائف المسيحية غير المعترف بها الأحباش والقبط والسريان، وكان يعين لها بطريركان، أحدهما في الأستانة ويمثل مركز القوة لانتشار الثقل الأرمني في ارمينيا، والثاني في القدس ويتبعه الأرمن الذين في حلب والقدس وغزة ونابلس وطرابلس، وعلى رغم الاستقلال الإداري الذي كان يتمتع به الأخير غير أنه لم يكن يعين إلا بعد موافقة بطريرك الأستانة. وتعود نشأة طائفة اللاتين إلى الوجود الصليبي في القدس في العصور الوسطى، حيث بقيت منهم بعض الأعداد التي استوطنت القدس والمدن التي كانت محتلة من قبلهم في الشام، فقامت هذه الأعداد على خدمة الحجيج القادمين من أوروبا، وحراسة الأماكن المقدسة التي عهد إليهم فيها، واعترف بهم المماليك كملة مستقلة عام 1342 م، لكنها ظلت محرومة من وجود بطريرك لها في القدس حتى عام 1847، حين نصب البابا بيوس التاسع الأنبا يوسف فاليركا بطريركاً لكرسي أورشليم، وجاء هذا التعيين بعد سيطرة محمد علي على الشام، وإتاحته الحرية الدينية لشتى الطوائف بها، فضلاً عن النشاط الواسع الذي أحدثه الوجود البروتستانتي في القدس، فظهرت لأول مرة الأسقفية الإنغليكانية عام 1841، ما جعل اللاتين يطالبون بإعادة التوازن مع النشاط البرتستانتي الغربي واليوناني الأرثوذكسي في المدينة، وقد تكونت البطريركية اللاتينية في ذلك الوقت من أربعة آلاف نسمة، وثماني كنائس في القدس والناصرية وبيت لحم ويافا وعكا وحيفا والرملة وعين كرم، ودير واحد في تراسانطة، وهؤلاء الرعايا في أغلبهم من أصول ليست مقدسية، أما طائفة الأقباط فهي من أقدم الطوائف، إذ قدمت إلى القدس عام 335 م لتدشين افتتاح كنيسة القيامة التي أقامتها الملكة هيلانة، وقد جاءت في معيتهم طائفتا الأحباش والسريان اللتان كانتا تتبعان الكنيسة القبطية في الأسكندرية، ونظراً لقلة عدد رعايا هذه الطوائف الثلاث فكانوا يعيشون في كنف الأرمن الأكثر عدداً وثراء في دير السلطان، ولم تتحسن الحالة الاقتصادية للأقباط إلا مع الحكم المصري للشام، فبنى القبط عام 1839 على يد الأنبا إبراهام خان القبط بمحلة النصارى، وجعلوا ما فوقه ديراً لزائري القدس من الأقباط، لكن الأحباش كانت حالتهم أكثر سوءاً، ولم تتحسن إلا في نهاية القرن التاسع عشر حين تولى أمرهم جريس أفندي الذي اتصل بنجاشي الحبشة يوحنا، فأرسل له الأموال اللازمة لسد حاجاتهم وشراء قطعة أرض خارج أسوار القدس، فبنوا عليها كنيسة الأحباش، في حين توزع السريان عام 1662 ما بين أرثوذكس وكاثوليك، فإن كنيستهم بقيت تابعة للأرثوذكس، وفشلت كل المحاولات المتعاطفة من قبل البطاركة الأرمن معهم في إقناع السلطان العثماني بإصدار مرسوم براءة خاص بهم. أما الموارنة فهم ينسبون إلى القديس مار مارون المولود عام 410 م في سورية، ولم تكن طائفتهم كما تقول الوثائق ذات تعداد كبير في القدس، حتى اندلعت فتنة 1860 في لبنان، فتوافدت أعداد منهم إلى المدينة، وحاول مار يوحنا في نهاية القرن التاسع عشر إقامة بطريركية خاصة بهم، فاشترى محلاً واسعاً على جبل صهيون بالقرب من برج داود وبنى عليه مقراً، غير أن السلطنة العثمانية لم تمنحه صك براءة الملة، ومن ثم لم تعتمد تعيينه بطريركاً من قبلها. وأوضحت الوثائق التي اعتمد عليها القضاة أن بداية ظهور طائفة البروتستانت تعود إلى عام 1820 حين قاموا بأولى عملياتهم التبشيرية في القدس، لكن الدولة العثمانية اعترضت على هذا النشاط، وجعلت عقوبة من يدخل من المسلمين في دين النصارى الإعدام، فظل البروتستانت مضطهدين من قبل العثمانيين والطوائف المسيحية الأخرى حتى أتاح محمد علي الحرية لشتى الجماعات الدينية، فهيأ المناخ لعودة التبشير البروتستانتي، ويبدو أن أوروبا كلها كانت منشغلة بهذا الأمر، فلم تمض عشر سنوات -1941- حتى تفاوض ملك بروسيا فريدريك فيلهلم الرابع وملكة بريطانيا ورئيس أساقفة كانتربري وليام هاولي على تأسيس أسقفية بروتستانتية مشتركة في القدس، وتم اختيار المبشر سولومون ألكسندر ليكون أسقفاً على هذه المطرانية عام 1845، وأنصب اهتمام سولومون على بناء كنيسة بروتستانتية على جبل صهيون، وبعد حصوله على الإذن بذلك مارست بريطانيا وبروسيا ضغوطهما على السلطان العثماني كي يصدر مرسوماً بالاعتراف بالملة البروتستانتية، وبالفعل صدر المرسوم في تشرين الأول (أكتوبر) 1850، ولأن البروتستانت منقسمون منذ البدء إلى جماعات وقوميات ولغات متمايزة، فقد انقسموا إلى ثلاث جماعات، اشتملت الأولى على الإنكليز واليهود المتنصرين، والثانية على الألمان الذين أصبح انتماؤهم للدولة الألمانية الموحدة عام 1871 أكبر من انتمائهم لكنيستهم، بينما اشتملت الثالثة على العرب الذين أغرقهم كرم جمعية التبشير الكنائسية الإنكليزية. ومع فشل محاولات التقابل بين الجماعتين الرئيستين تحول الأمر إلى صراع سياسي بين بريطانيا وألمانيا، وانتهى بتعيين كل منهما أسقفاً خاصاً لرعاياه في القدس. وذهب القضاة إلى أن شتى الطوائف تمتعت بإدارة شؤونها المدنية والدينية وفق نظام الملل العثماني، وأن الزواج كان يتم بين أبناء الملة الواحدة، ونادراً ما حدث تزاوج بين الأرثوذكس واللاتين بسبب العداء المذهبي بينهما، وكان الزواج على مرحلتين، الأولى هي الخطوبة، وكانت تتم بحضور الكاهن وتستمر سنوات، والثانية هي الزواج ويتم بحضور الكاهن، وكانت الأفراح إلى ثلاثة أيام من الاحتفالات، حتى غضب المسلمون من ذلك فصدر مرسوم سلطاني بمنع احتفالات الزواج لدى المسلمين والنصارى معاً، ويختلف المهر من ملة لأخرى، ويعد الطلاق محرماً في شتى الملل، ولا يحدث إلا في حالات الزنا أو تغيير الملة، كما يعد الزواج للمرة الثانية محرماً، ولا يحدث إلا في حالة الطلاق أو الموت، وكانت المرأة النصرانية حريصة على تربية أبنائها عن الزواج برجل ثان، وفي الغالب كانت مقيدة الحرية سواء من قبل أهلها أو أهل زوجها. وقد اقتصر زي النصارى على اللونين الأزرق والأسود، ثم ألزمت الدولة العثمانية شتى موظفيها - ما عدا رجال الدين المسلمين والمسيحيين - بارتداء الطربوش، فحدث نوع من التقارب في الزي بين المسلمين والمسيحيين، ولم يسمح للنصارى بامتلاك الرقيق إلا بعد دخول محمد علي الشام، وصدور خطة التنظيمات عام 1856، وقد أنشأ المصريون مجلساً للشورى في كل مدينة يزيد تعداد أهلها عن ألفي نسمة، واشترطوا أن يمثل فيه كل أبناء الطوائف الدينية، كما اعتمدوا نظام المختار الذي تختاره الدولة لإبلاغ أهل ملته في القرية التابع لها بالقوانين، وأقيم مجلس اختيارية في كل قرية، وكان لاختيارية النصارى مجلس خاص بهم، ومن ثم فقد اندرج النصارى في الجهاز الإداري، وأصبح منهم ترجمان الصيارفة، كما كان من بينهم الصيارفة والكتاب ومأمورو الجمرك، وقد تولى حنا افرونكو إدارة البنك العثماني الذي تأسس عام 1862 برأس مال عثماني وفرنسي وإنكليزي. كما شارك النصارى أعضاء في الجهاز القضائي سواء في المحاكم الابتدائية أو التجارية، وكانت لهم مدارسهم وشركاتهم الخاصة.