رسالة إلى تراب الوطن هنالك .. في ذلك المكان البعيد .. عند الغروب وبينما كنت أسبح في بحر من الخيال .. لم أشعر بيميني إلا وهي تمسك بحفنة من التراب .. كانت تمسكها بقوة عجيبة وبطريقة توحي لمن يشاهد الموقف بأن هنالك أمر غير عادي .. أرخيت قبضتي وبسطت يدي بشكل افقي وأخذت أتأمل تلك الذرات المنبعثة من كفي والتي تناثرت في كل الإتجاهات لترسم خيوطاً حمراء يزيد من دكانتها تعانقها مع خيوط الشمس الذهبية التي تخترق أصابعي بإتجاه الماء المنساب أمامي. رفعت كفي قليلاً وأخذت أستنشق تلك الذرات المتصاعدة .. بقيت على ذلك الوضع هنيهة، وكلما أخذ نفسي بالتضاؤل، كررت الإستنشاق .. وهكذا وكأني أبحث عن شيء ما..! ولكنني توقفت فجأة ... ورميت بتلك الحفنة بعيداً عني .. بل ونفضت يداي وملابسي جيداً .. حتى لا يبقى لها أي أثر .. بل وذهبت لأبعد من ذلك عندما أخذت عوداً صغيراً كان بجانبي قد لفظه النهر الجاري ... وأخذت أبعثر التراب من حولي لكي أشتت تلك الحفنة بشكل كامل ... لا أدري لماذا! لكنه شعور خالجني حينها.. وعدت أفكر ... لماذا لم أجد في هذه الحفنة ما يشبع فضولي؟! لماذا القيت بها بعيداً ..؟! بل ونفضت آخر ذراتها عن جسدي... حينها أدركت أني لم أجد فيها تلك النكهة الخاصة التي كنت أجدها في تراب الوطن... نعم، فلم يكن لتلك الحفنة الغريبة لون أو رائحة تميزها، على الأقل من وجهة نظري. حينها عادت بي الذكريات الى هناك .. نعم إلى هناك.. إلى الماضي البعيد .. إلى أيام الطفولة والصبا، إلى أيام مزرعة أبي الصغيرة التي أعرفها جيداً بل وأعرف ذرات ترابها التي كثيراً ما كانت تداعبها هاتان اليدان. يا الله وهل تُنسى تلك الأيام..؟! هل أنسى جريان الماء في سواقي المزرعة؟! وهل أنسى حركاتي الصبيانية عندما كنت أجري خلال السواقي بقدماي الحافيتان لأثير الماء الجاري حتى يخرج من مجراه إحتجاجاً على أفعالي..؟! بل كيف أنسى صوت والدي الحبيب ( والذي أسمعه الآن يتردد في ردهات أذنَّي) وهو ينهرني عن فعل ذلك..؟! فقط الآن أدركت قيمتك يا تراب الوطن ... فقط الآن أدركت كم أنت عزيز... فقط الآن عرفت أن روحي وجسدي (قطعة) منك يا تراب الوطن ... فقط الآن عرفت مقدار خطئي عندما كنت أهرع لإزالتك ونفضك عن جسدي حين مغادرتي لمزرعة والدي... ولو أن الزمان يعود للطخت بك كل أجزائي ... بل ولزرعت ذراتك في خلايا جسدي ولبطنت بك شرايين قلبي.. ولستنشقتك هواءً يملأ رئتي ... ولخلعت نعلي وسرت حافي القدمين حتى أستمتع بحنانك الذي لا ينضب... تراب وطني الحبيب .... أصدقك القول إن قلت ... والله إنه مع الغربة لا طعم للأنهار الجارية ولا للطبيعة الخضراء ولا للحضارة الجوفاء ... وكلها لدي لا تساوي حفنة منك أيها الطاهر ... آه يا تراب الوطن كم أنت عزيز .. وكيف لا تكون كذلك ... وقد ترعرعَتُ بين ظهرانيك .. بل كيف لا تكون كذلك وقد ولِدَ ومشى عليك خير الأنام .. ومن فوق حباتك الطاهرة انبثق نور الإسلام وعليك عاشت خير أمة أُخرِجتْ للناس .... بل وكيف لا أعشقك وفوق تلالك توجد أطهر وأشرف بقاع الأرض ..؟! وهل أنسى ابوة التراب واخُّوَتُه وصداقته وخيراته...؟! لا لا لن أنسى وكيف أنسى؟! محمد المالكي (كُتبت في بلاد الغربة في لحظة شوق وحنين لبلادي الغالية وأهلي وأحبتي)