لا يعرف الشوق إلا من يكابده .. وأقول لا يعرف عمل "مدير المدرسة" إلا من عمل فيه وجربه وشعر بثقل العمل ومسؤولياته وأمانته وتعدد واجباته.هذه واحدة من معاناة أسرة المدرسة وتحديداً "مديرها" قصص "خاصة" الاقتراب منها يحمل المسؤول الكثير من المسؤولية وسط "تفسيرات" وشكوك سواء من بعض زملائه أو من أقارب أصحاب القضية. لاحظ مدير المدرسة أن هناك طالباً يحرص على جمع "بقايا" أطعمة الطلاب من "الفناء" بل ومن "مكان القمائم" طلب المديرون من "المرشد الطلابي" متابعة الحالة ومتابعة الطالب وطلب استمارة "بحث" عن أحواله. إفادة عاد المرشد للمدير مفيداً أنه جمع معلومات من جيران الطالب ومن خلال "ملفه" ووجد أنه يعيش في منزله مع والديه ووالده يعمل في وظيفة مستخدم. لقاء الطالب التقى المدير بالطالب في غرفة الإدارة وسأله عن عمله هذا وهو جمع بقايا الأطعمة فجاءت إجابة الطالب.. إنني أقوم بتقديمها علفاً للأغنام في دارنا. شكر المدير الطالب لأن إجابته كانت "معقولة" وبعد مرور شهر من الأمر شاهد المدير أن الطالب يقوم بعد انصراف زملائه بعمل "توزيع" بقايا الوجبات السليمة وغيرها فاقترب منه وقال له من يحمل هذه عنك؟ قال أستعين بالجيران الذين لهم أبناء وسيارات لنقلها للمنزل. طلب الأب بعث المدير لوالد الطالب بخطاب لزيارة المدرسة وسلمه للطالب إلا أن الطالب بعد أن استلم الخطاب من المرشد الطلابي دخل إلى المدير وسأله وكان في الصف الخامس الابتدائي لا يتجاوز العاشرة .. لماذا تريدون والدي؟ أجاب المدير لا يوجد شيء أو ملاحظة على مستواك الدراسي أوتعاملك مع زملائك نريد أن يزورنا والدك فقط. طعام إخوان فجأة بكى الطالب بحرقة .. فسأله المدير ماذا يبكيك؟ قال لا يعلم والدي بالأطعمة التي أنقلها من المدرسة .. قال المدير لماذا ؟ قال الطالب هذه الأطعمة ليست للأغنام إنها "لإخواني" نحن 12 فرداً ومرتب والدي لا يكفي للصرف علينا وأنا أقوم بهذا العمل وأقدم "قطع السندوتش" لوالدتي وزوجة أبي لتنظيفها وتقديمها لنا صباح كل يوم للإفطار ولو علم والدي لعاقبني.. وعد المدير الطالب ألا ينقل للوالد الأمر. الوالد حضر الوالد والتقى في اليوم الثاني بمدير المدرسة وحاوره المدير عن وضعه ووظيفته ودخله .. وتحدث الوالد أنا أسكن في منزل شعبي بالإيجار لدي زوجتين و12 ابناً أكثرهم من الإناث وأعمل مستخدماً في إحدى الإدارات في مكةالمكرمة ومرتبي الشهري 2300 ريال وهي أقل من 80 ريالاً يومياً والحمد لله على فضله وقضائه. يوم ويوم شعر المدير بالألم وبؤس حال الأب الذي فتح قلبه للمدير وقال له هل تصدق يا أستاذ أن أبنائي منهم ثمانية في المدارس لا أستطيع أن أقدم لهم مصروفاً يومياً مثل زملائهم سواء الذكور أو الإناث.. لكني عملت "جدولاً" يقوم على تقديم المصروف للأبناء الذكور مثلاً السبت ولا تجد البنات شيئاً وفي اليوم الثاني يكون نصيب البنات. دور المدير حاول المدير لفترة طويلة مع الأب أن يقدم ما في إمكانه لمساعدته إلا أنه رفض متعلقاً بتربية وعادات تمنع امتداد اليد إلا أن الأب تحت توسلات ورجاءات الأب وافق أن تتحمل المدرسة المصروف اليومي وطعام الفطور في المدرسة لأبنائه دون علم أحد من المعلمين. رجل الأعمال أجرى مدير المدرسة اتصالات مع أحد رجال الأعمال المتعاونين مع المدرسة وعرض عليه حالة الأسرة فاستعد بتقديم "ألفي ريال" مساعدة شهرية وسداد فاتورة الكهرباء وتقديم وجبات غذائية في رمضان وكسوة في العيدين ونقل المدير الفرج للأب الذي جاء وقد نزلت دموعه على خديه .. لكن المدير شعر بفرحة كبرى ولم يعلم حتى اليوم بالقضية إلا أحد وكلاء المدرسة الذي كلفه المدير بالاتصال برجل الأعمال وتسليم المبلغ للوالد في خارج المدرسة وفي أوقات مختلفة عن اليوم الدراسي. جامع الأطعمة وقضت الأيام والسنوات وبعد أقل من 15 عاماً كان المدير في مراجعة مستوصف طبي لمعرفة قياس الضغط، وجاء شخص يرتدي "الروب الطبي" وأمسك بجهاز الضغط وعند بداية القياس أطل في تحويل الكشف وقرأ اسم المريض ونظر إلى المريض فوق السرير وقال "الأستاذ فلان" أعاد المدير التفكير وتذكر الطالب "جامع الأطعمة" الذي يتدرب في مستوصف وهو في مرحلة التدريب. وقام المدير وقبَّل طالبه الذي أسرع لتقبيل رأسه وسأله عن والده.. قال لقد توفي الوالد والوالدة وأنا الآن المسؤول عن أسرتي وفي طريقي للزواج .. نسى المدير كم هو قياس الضغط وخرج ممسكاً بيد طالبه "الطبيب" إلى حيث مكان سيارته وودعه .. وأخرج "منديله" من جيبه ليمسح دمعة لم يستطع منعها وهو يتذكر جامع الأطعمة ووالده وإخوانه "الطبيب اليوم". قضايا تواجه المدارس إلى جانب العمل التربوي التعليمي الكثير من القضايا التي لا يمكن حصرها ومنها أمثال هذه المشكلة التي لو لم يرد الله بكشفها عن طريق أحد العاملين في المدرسة ووجدت مديراً شهماً لما وجد أمثال هؤلاء من يسأل عنهم أو يعلم عن معاناتهم ومثلها مشاكل الطلاق والعنف الأسري وضرب "الأم". سرية تامة هذه القضايا لا يتم كشفها حتى لأسرة المدرسة إلا المعنيين بالأمر المدير، الوكيل، المرشد، معلم الطالب.. وهم أطراف القضية وتبقى في صدر المعلم الكثير من القصص والمواقف ولكن يظل الله أرحم من كل رحيم.