في الوقوف على عتبات المشهد السياسي، بعيدا عن النظر في خلفياته الثقافية والتاريخية غمط كبير لتفسير حقيقة ما يجري من تفاعلات قد ينظر إليها البعض في معزل عن سياقها الحقيقي الذي يجعلها تبدو كردة فعل أكثر منها نتيجة حتمية ومخاض طبيعي لتحولات مهمة تأجلت بعض الشيء، ولكنها أتت مباغتة لصناع القرار السياسي في ساعة قيلولتهم السياسية التي استمرت لعقود، وظلت تراودهم فيها أحلام فسرها لهم خبراء البلاط وقالوا: إن الهروب إلى الأمام قد يعني الهروب من حتمية التغيير. دعونا نتخيل سويا ماذا لو أن زعماء أوروبا وأمريكا، ممن قادوا دولهم في الحرب العالمية الثانية، مثل روزفلت وتشرشل وديغول استمروا في إدارة زمن السلم بعد أن انتصروا في زمن الحرب.. كيف كانت الصورة ستبدو؟.. لقد تنبه قادة الغرب بخبراتهم السياسية التي عجنتها ثورات العقول لديهم قبل ثورات الأبدان إلى الكثير من حقائق التغيير وحتميته. الأمر الذي جعل الكثير من قراراتهم السياسية تسبق دائما تطلعات شعوبهم استنادا إلى قاعدة "يحتاج كل جيل إلى ثورة جديدة" بحسب الرئيس الثالث للولايات المتحدةالأمريكية توماس جفرسون.. والمتأمل للمشهد السياسي العربي يجد أن جذر المشكلة يكمن في عدم التداول السلمي لقرار السلطة بين الأجيال، فالجيل السابق حاول سحق الأجيال اللاحقة وإخضاعها وتدجينها والاكتفاء في أحسن الحالات بالحديث عن المشكلة كتطلعات شابة يمكن الاستجابة لها، في حين أن حقيقة الأزمة تتجاوز مبدأ التسول الأخلاقي الذي قد توصم به أحلام وتطلعات الشعوب نتيجة لصراع إرادات وأحلام لجيل جديد يحاول أن يولد، بينما يحاول جيل كهل إعادته إلى رحم أمه أو الاحتفاظ به في حاضنة اصطناعية.. لقد تراكمت الأجيال المقهورة في الوطن العربي على أيدي جيل الستينيات الذي أمسك بزمام السلطة مسلحا بالرشاش والدبابة، والظن بأنه اكتسب مشروعيته من نضال عتيق.. ليتحول هذا الجيل "الكاكي" تدريجيا وعلى غفلة من التاريخ إلى ارستقراطية جديدة جثمت عنوة على أنقاض أحلام أجيال لاحقة.. ورثت بدورها جينات الغضب لأحفادها ليتخلق جيل ثالث أقل خوفا وأكثر جراءة في اقتحام كل تابوهات الماضي.. هذا الجيل المعدل وراثيا، إن صح التعبير، تفتحت عيونه على وسائل اتصال ثورية جديدة فرضتها تكنولوجيا العصر ليجعل منها محطة تجمع لبقايا أحلامه المكدودة التي خاض غمار الدفاع عنها من خلال ثورات عارمة أشعل شرارتها شاب تونسي مقهور بجسده. وبعيدا عن الخوض في تفاصيل تلك الثورات وما رافقها من أخطاء داخلية وتدخلات خارجية إلا أنه من المجازفة عدم اعتبارها نتيجة طبيعية لتراكمات طويلة بلغت ذروتها بمحاولة النخب السياسية حاكمة ومعارضة إيقاف حركة التاريخ في الكثير من دول الوطن العربي، حيث ظلت تلك النخب تصر على تقديم ذات المدخلات بغرض الحصول على مخرجات جديدة.. أو لا تقدم أي مدخلات أصلا ظنا منها أن ذلك سيوقف عجلة التاريخ في أحد ملامح الخداع والمكر السياسي. لقد مثل الخداع السياسي الذي حاول من خلاله قادة جيل أن يضعوا العصا في عجلة التاريخ وأن يقمعوا إرادة أجيال لاحقة لم تحظى بحقها في المشاركة في صنع مستقبلها وتحديد أولوياتها وخيارتها في الحياة والحرية بمثابة عذاب أبدي سيلحق بقادة جيل عتيق ظن أنه انتصر على الزمن وقهر إرادة التغيير ذاتها التي تجعل من الموت حقيقة أو مجازا علامة على نهاية مرحلة وبداية أخرى. وهو الأمر الذي شاركت فيه أيضا النخب التي جعلت من نفسها رمزا للنقيض من السلطة بينما هي ذاتها تفكر بذات العقلية وتستخدم نفس الأدوات وإن بدت لأول وهلة كمعارضة.. إلا أن خطأها الفادح أيضا أنها كانت تنتمي لذات الجيل "الكاكي" فكانت بمثابة ظله الذي لا يستقيم.. ولا يمكنه أن ينتصر عليه أو يسبقه في يوم من الأيام