على مدى ثمانية عشر يوماً أدهشت ثورة الشعب في مصر في إصرارها وحضورها العالم. تحولت الانتفاضة الجماهيرية الى حالة ثورية تقرأ بعين الدهشة ومحاولة الفهم واستعادة القراءة في مشهد كبير للتغيير. حتى ليلة الجمعة الماضية كانت هذه الثورة تقف على حد السكين. صراع الإرادات كان سمة ليلة صعبة، بين نظام يريد استعادة زمام المبادرة من خلال الاستجابة لبعض المطالب مع إعادة انتاج النظام على نحو مختلف، ومطالب جماهيرية حاشدة ومتواصلة تضيف لها كل يوم متظاهرين جددا لا تريد بأقل من القطيعة مع النظام تحت عنوان الرحيل. وهذا ما حدث مساء الجمعة على نحو مفاجئ وإن كان متوقعا. ماذا حدث في الساعات الاخيرة؟ منذ مساء الخميس العاشر من فبراير كان من الواضح بعد البيان الاول الذي أصدره الجيش، أن ثمة تدخلا من مؤسسة الجيش المصري، لم يكن سوى بيان الرحيل الاول، ولذا عندما جاء خطاب الرئيس مختلفا، خلق حالة من البلبلة في قراءة المشهد، إلا انه كان يوحي بأن ثمة ايضا خلافات داخل مؤسسة الرئاسة، والجيش حول حسم الموقف. وربما أعطى الجيش فرصة أخيرة لمؤسسة الرئاسة لاستخدام الورقة الاخيرة قبل الرضوخ لإرادة الجماهير، وإلا فإن مصر كانت مقبلة على مرحلة خطرة جدا لا يمكن لمؤسسة الجيش ان تتحمل تبعاتها. جمعة التحدي التي أخرجت الملايين جعلت مؤسسة الجيش تلقي بثقلها خلف الخيار الذي لم يكن منه بد. ربما كنا اليوم امام تأسيس للجمهورية الثانية في مصر. وهي لن تكون بحال كالجمهورية الاولى انها مرحلة مختلفة، وتنتمي لجيل مختلف وتجربة مختلفة، والذي يخشى على سرقة الثورة عليه ان يعيد النظر في تراكمات الوعي الذي صنع واحدة من أعظم الثورات الشعبية السلمية في العالم. هذه الثورة ليست نتيجة انقضاض فيلق عسكري على السلطة ليعلن البيان الاول، وهو يدغدغ عواطف الجماهير، لقد مضى زمن الانقلابات العسكرية التي تصنع ثورات وهمية وهي تنتج حكما متسلطا قمعيا تحت يافطات عريضة، أوصلت الشعوب العربية بالتراكم الى حالة من التردي والتراجع لم يشهد لها مثيلا في تاريخه الحديث. القلقون من سرقة الثورة الشعبية ربما لا يأخذون بعين الاعتبار ان إرادة الشعب المصري لا يمكن الاستهانة بها، او الوقوف في وجهها بعد اليوم. وأن الوعي الذي يحمله جيل جديد أشعل الثورة والتحمت به الجماهير والنخب المؤمنة بالتغيير.. هذا الوعي والشعور بالقدرة على صناعة المستقبل هو الرهان الذي ستقف امامه أي محاولات لتجيير او سرقة هذا الانجاز الكبير. بين يومي الخامس والعشرين من يناير، والحادي عشر من فبراير، ثمانية عشر يوما ستغير وجه مصر التي نعرفها، وأقول ستُغير لأنها مازالت على أبواب التغيير، والتغيير لا يجب أن يقل عن تحقيق الاهداف الكبرى التي تمثلت في مطالب الشعب المصري. سيُكتب الكثير عن هذه المرحلة، التي نطل عليها اليوم من خلال مشهد ميدان التحرير، ولكن تبقى عناصرها وقصصها واسرارها كشفا مهما ستتوالى شهاداته. عايشت في مصر اسبوعا بدأ من يوم 24 يناير. فضول المراقب جعلني لا أتردد من الاقتراب من المتظاهرين بميدان التحرير وقراءة مشهد ما بعد 25 يناير خلال الايام الاولى للانتفاضة التي تحولت الى ثورة. كان من الصعب حقا فهم حالة ثورية بلا طليعة، كان شعورا عاما بأن شعبا يتجاهل كل ما وراءه ليضع هدفا محددا أمام عينيه، كان إصرارا عجيبا على التغيير. حالة جرّت فجأة خلفها كل فئات المجتمع بلا تردد، وكأنها لم تكن تنتظر سوى تلك النواة التي واجهت ثقل وهيبة ونفوذ ورهبة المؤسسة الامنية، فقد كانت عبئا ثقيلا، تحديه هو الشرارة التي أطلقت كل هذا العنفوان الجماهيري. النهج السلمي التام، واختفاء كل العناوين عدا الرئيسية منها، والانسجام الكامل خلفت هدفا واحدا، وإخفاء كل التناقضات، هو أمر نادر في الثورات التي شهدها العالم. هذا النموذج لا يمكن إلا الوقوف عنده طويلا. وقد صبغت سمته تلك الحالة من الانضباط والسلمية والتعاطف الكبير بين جموع من الصعب حشدها من أجل قضية واحدة. هناك تفاصيل لافتة سنرى منها الكثير خلال الايام القادمة وربما تحولت فيما بعد الى أعمال او كانت إلهاما لأعمال إبداعية. لم تفارق روح الطرفة صناعة شعارات سياسية في مضمونها إلا أنها غاية الطرافة في تركبيها وبنائها. هناك تفاصيل صغيرة لا يمكن ان تشهدها الا في خضم الوقوف على مشهد لا يكفي فيه فيلم تسجيلي ولكن صناعة اعظم فيلم تاريخي أبطاله هذا الشعب الذي فاجأ العالم. اختفت الطائفية وتعالت الروح الوطنية، احتجبت الشعارات الدينية، وتعالت الشعارات الجامعة والرئيسية، غاب صوت الفئوية وتعالى صوت الحرية، تراخت أصوات القلقين وتعالت روح وطنية جامحة، كانت المنهل العظيم الذي استقى منه المصريون على اختلاف فئاتهم وطبقاتهم ومستوياتهم وثقافتهم هذه القدرة على التغيير. لا يمكن تجاوز مشهد معبر ومؤثر ويحمل دلالات على عمق التواصل بين الاجيال. بعد أن كانت الخشية ان ينقطع هذا الحبل للابد تحت وابل التراكمات التي اصابت الواقع العربي والمجتمع العربي خلال عقود. كانت الشكوى من كثيرين خلال العقود الاخيرة من انطفاء جيل شاب وانهماك كثير منه في قضايا بلا جدوى، وتراخى أي حلم يمكن أن يصنعه جيل بلا انتماء سياسي، إلا أن هذا الجيل الشاب خيب كل هذه الظنون.. لن تفارق ذاكرتي تلك الحالة التي انتابت جيلا سابقا ممن غزا الشيب مفارقهم وأرهقت السنون قاماتهم.. لقد رأيتهم في اكثر من مشهد هناك، ونقلت بعض الفضائيات مشاهد ستظل في ذاكرة جيل اليوم وهو يستعيدها .. لم تفارق تلك الدموع، التي تتقاطر، وجوههم وهم يكفكفونها غير مصدقين. لقد حقن هؤلاء الشباب الذين تصدروا هذا المشهد في شرايينهم التي جفت رحيق الحرية وشعور الكرامة وقدرة التأثير التي كادت تموت تحت سنابك الانسحاق المتداعي عقودا بعد عقود... وهم الذين عاشوا ردحاً من أعمارهم تآكلت فيه احلامهم وأُحبطت فيه اجيالهم. مصر اليوم امام صناعة جديدة للتاريخ. التحدي القادم أكثر اهمية بعد إنجاز هدف رئيسي في مسار التغيير. الهدف لا يجب ان يكون فقط ترحيل نظام ولكن بناء نظام يستجيب لتطلعات شعب دفع الكثير من الاثمان ليصل الى هذه المرحلة. التقدم الذي يحققه الشعب المصري في نيل مطالبه المشروعة وبناء نظام ودولة يستجيبان لأحلامه وطموحه.. نقلا عن الرياض