ماذا جرى للثورات العربية؟! الى أين تمضي بنا؟!.. والى أين نمضي معها؟!..أسئلة تطرحها بقوة الآن مقتضيات الحال، وموجبات اللحظة، وواجبات الظرف، في ذكرى مرور عامين منذ اندلاع الشرارة الأولى للربيع العربي من تونس في ديسمبر عام 2010، و ما آلت اليه الأمور في كل من مصر وليبيا واليمن وسوريا. حوادث الثورات العربية بعضها خلفنا، وبعضها تحت أقدامنا في لحظة راهنة، فيما يتوارى المستقبل خجلاً من مآلاتها ان هى سارت في مسارات ظن البعض أنها اختطفت عنوة اليها، واعتقد البعض أنها كانت حتمية بفعل تاريخ يثقل كواهلنا جميعا بفعل حاضر بدا لكثيرين ان لا فكاك منه، بينما ترى تيارات الاسلام السياسي التي امتطت الثورات وأمسكت لاحقا بلجام السلطة بعدها، أن ما حدث هو بعض المعجزات التي انتظروها طويلاً، في الكهوف، أو في الخنادق، أو خلف أسوار السجون،وأن لحظة التمكين قد حانت، وساعة «الخلافة قد دانت». التاريخ لا تصنعه المعجزات، أولا.. لأن زمنها قد ولّى مع انقطاع الوحي بآخر رسالات السماء، وثانياً..لأن معجزات ما بعد الأديان تصنعها عقول حملت التكليف السماوي بالتفكر والتدبر وإعمال العقل، وليس بالانتظار تحت شجرة المعجزات ريثما تسقط تفاحة السلطة في حجر مرشد الجماعة أو الولي الفقيه. ما حدث فيما سمى ب «دول الربيع العربي» ليس معجزة، لكنه حالة ولادة متعسرة لأمة كانت قد خرجت قبل قرون من حسابات التاريخ، وأراد بعض شبابها العودة للمشاركة في صناعته، غير أنهم عادوا بلا بوصلة ولا خارطة، فداهمهم دراويش ترقب المعجزات، واصطنعوا معجزة باختطاف حلم أمة، وكما يفعل كل الخطافين، فإنهم يلوذون عادة بمخبأ أو خندق أو كهف، يحصون غنائمهم، ويبحثون سبل توزيعها على أنصارهم وأشياعهم، ثم يقتسمونها في النهاية، وهكذا فقد لاذ خاطفو ثورات الشباب بكهوف السلطة، واحتموا بعباءة الدين، وادعوا احتكار مفاتيح جنته. وقائع ما سبق، تحتاج الى قراءة في العمق، لمعرفة ما جرى، وتوقع ما قد يجري بعده، فالثورة في الأصل هى فعل تغيير كاشف، أو أنها فعل كاشف يسعى الى التغيير، وما جرى في دول الربيع العربي، قد رضي بفعل الكشف، عن فعل التغيير، ولهذا فقد رأينا تحت أغطية الثورات عجباً، ولم نر بعد تغييراً. كانت اللحظة في مصر- على سبيل المثال- كاشفة بقوة،حين استطاعت قوى الماضي ان تصادر أحلام قوى المستقبل، وأن تطرح على الناس بديلا عن ذلك، وعوداً بالجنة في الآخرة، وصكوك غفران لمن يصوتون الى جانب نعم ضد لا، وبدا أن نجاح الماضويين في تسويق مشروعهم قد تجلى في تصويتين في استفتاءين أحدهما بعد أسابيع من سقوط نظام مبارك والآخر قبل ايام، إذ تبدى مدى تأثير الوعود الغيبية على اصحاب الحاجات الدنيوية الاساسية، تماما كما تبدت قدرة مسوقي الماضي على تغييب حسابات المستقبل، وبدا جلياً أن جماعات الاسلام السياسي تجني بنجاح حصاد ما زرعته قوى الفساد على مدى قرون من الجهل والأمية والتخلف. وحين تجلى عبر الصناديق وخلال مليونيات حشد لها تيار الاسلام السياسي في شوارع مصر، فداحة تدني المستوى المعرفي لدى جماهير هذا التيار، بدا أن رياح الماضي اقوى بكثير على حمل تطلعات الأمة من القرن الحادي والعشرين، الى القرن السابع الميلادي، وبدا وكأن اقصى ما يحلم به انسان «الربيع العربي» هو الرجوع الى ماض بعيد يحتمي به من رياح الحضارة، ويكتفي به عن ما تتطلبه ملاحقة العصر من انكباب على البحث والتنقيب والتعلم والنهضة. قوى الشباب التي فجرت حركات الربيع العربي، كانت تتطلع الى «الدولة الحديثة»، لكن قوى اختطاف الثورة، حملت الجميع الى حلم دولة الخلافة. ومثلما تكون الأمور ملتبسة في الأحلام غالباً، فقد بدت كذلك لدى من يحلمون بالخلافة ولا يعرفون عنها ومنها سوى يقين ابي بكر، وعدل ابن الخطاب، وورع بن عفان وايمان علي. هذا الالتباس الطبيعي في الرؤية، عند من يهيمون بتسويق الماضي لدى زبائن المستقبل، جعل مهمة تيارات التنوير أكثر صعوبة، فالرؤية غائمة، والصورة ممزقة الأشلاء، واسئلة الماضي باتت هى ذاتها أسئلة اللحظة، وكأنما الناس لم تغادر بعد زمن الخلافة قبل اربعة عشر قرناً من الزمان. على مدى 14 قرنا عاشت معظم الدول الاسلامية على «شبه وصفة» للتعايش مع العصر، دون أن تتمكن أي منها من الاندماج فيه او حتى الاشتباك معه.. شبه الوصفة تلك تركت شعوبنا على هامش التطور، فعاش معظمها عالة على ابداع الآخر، ومات بعضها مسحوقا تحت سنابك خيول الغزاة الغربيين.. تطور ما تحت ايدينا من أدوات استطاع بعضنا «اقتناءها» لكن ما لدينا من علم انحسر وتراجع، وما لدينا من فكر (وهذا هو الأهم) اصابه الجمود، فيما انكفأ أغلبنا على تلبية متطلبات الحد الأدنى للاستمرار «الغريزي» بإشباع شهوات البطن والفرج. جاءت ثورات الربيع العربي اذن «كاشفة»، ومازال العربي ينتظر التغيير بعد الكشف، وبعد عامين من اندلاع الشرارة من تونس، تراجعت حتى المفردات، فما عادت الثورة «ثورة» وانما «انتفاضة» لا تختلف كثيراً عن «هوجة عرابي» في مصر قبل اكثر من مائة وثلاثين عاما.واليوم تتراجع «الانتفاضة» لتصبح ربما بعبارات أكثر تهذيبا» استفاقة» أو «إصطباحة». الاستفاقة من سبات طويل، والاصطباحة من نوم عميق، وبدلا من أن نستفيق منتشين بحقيقة النهوض، أو نصطبح راضين عن اكتشاف اننا مازلنا -بحمد الله- على قيد الحياة، تبينت لنا فداحة المسافة بيننا وبين من سبقونا بالعلم الى الحياة.. وصحونا على سؤال طرحه أمس صديق الفيس بوك د. نور فرحات استاذ القانون، يسأل فيه بعد سبعة آلاف سنة ومعه كل الحق،ماذا تعني مصر الآن بالنسبة لأهلها؟.. هل مازال لها معنى واحد متفق عليه لدى الجميع؟.. ما هو؟... وسأحاول في مقال قادم الإجابة عن سؤال فقيه القانون د. نور فرحات. [email protected]