مدخل : حين قال المتنبي : أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم لم يقلها من فراغ، ولكنه قالها وقد أدرك مكانة لم يدركها غيره في الشعر العربي ،قالها وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس، قالها وأبياته تتناقلها الركبان وتتذاكرها الإنس والجان، فرغم غرور أبي الطيب إلا أن له ما يبرره ،على أن قصة مقتله تؤكد أن ليس كل ما يقوله الشاعر يمثل الحقيقة فقد آثر الهرب على المواجهة وهو القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم ولكنه خجل حين ذكّره غلامه بهذا البيت فعاد لمواجهة عدوه فكانت نهايته بسبب شعره المتعالي . * أبوالطيب المتنبي شاعراً نبطياً : رغم غياب أبي الطيب منذ قرون ؛إلا أننا نلاحظ غروره الشعري ينساب في ساحة الشعر النبطي حين يستلهم أبياته شاعر نبطي لا زالت علاقته مع الشعر في طور التكوين ،فهذا أمر يثير العجب الذي يأخذ بي مأخذه فأحاول أن أجد تفسيراً مقنعاً حين أشاهد أو أسمع هذا الشاب الذي مازال موضع شنبه بكراً يتشدق بقدراته الشعرية الخارقة التي لم يبلغها قبله إنس ولا جان ، ولكني عييت بأسباب هذا الانجراف الأناني .فمن المعروف أن الشاعر في بداياته يحتاج إلى الاستشارة والتوجيه ممن هم أكبر منه سناً وأكثر منه خبرة، ولكن إذا كان هذا (الشعرور) يزعم بأنه أشعر الخلق وهو لم يتجاوز مرحلة المراهقة فماذا سيفعل بعد ذلك ؟! لقد تنمّى هذا الاتجاه في شعر المحدثين متوهجاً على صفحات المجلات الشعبية ثم تجلى على شاشات القنوات الفضائية التي تبث الغث والرث حتى شكل ظاهرة تستحق المناقشة . الأسباب المؤدية إلى تضخم الأنا في الشعر النبطي : لاشك أن البحث في أسباب هذه الظاهرة يحتاج إلى دراسات نفسية واجتماعية متخصصة، ولكني سأجملها من وجهة نظري في عدد من المحاور النفسية والاجتماعية والأدبية والإعلامية التي لها دورها في تكريس هذه الظاهرة المرضية بطريقة أو بأخرى : 1 انتشار ثقافة (الهياط) في المجتمع أفرزت هذا السلوك الغبي الذي ينطبق عليه مصطلح (العائل المستكبر) فأغلب (المهايطية) هم الذين يشعرون بعقدة النقص فالفقير يتحمل الديون ويحمل نفسه فوق طاقتها في سبيل الحصول على أمر كمالي غير هام ليظهر للآخرين أنه مقتدر، وقاصر الثقافة تجده يتشدق في المجالس ويهرف بما لا يعرف ليقال عنه أنه مثقف ، وهكذا الشعراء محدودي الشاعرية يحاول أن يقنع الآخرين بهذا (الهياط) بأنه الأشعر والأفضل وبأنه (خير من سارت به قدم) والحقيقة أنه ينطبق عليه قول الأكلبي (وهو بالخلا لو جاه بنتٍ خذت ثوبه ) . 2 شاعر القبيلة هذا المصطلح جعل كثيراً من المستشعرين يحرصون على حضور حفلات القبيلة ومناسباتها العامة ويصرون على المشاركة فيها فيجدون فرصتهم بسبب ضربهم على وتر حساس يلامس مشاعر الدهماء ألا وهو المفاخرة بأمجاد القبيلة وأفعالها ودحرها لخصومها فيلاقي التصفيق الحار بعد كل بيت من أبيات القصيدة، ردة الفعل هذه جعلته يكرر هذا الموال الذي تضخم بعد انتشار (مزاينات الإبل ) ثم امتد إلى تدبيج قصائد المدح في البهائم وأصحاب البهائم ليصل من خلالها إلى مدح القبيلة والفخر بها، فإذا فازت ناقة ما في مزاين ما فهذا يعني في منظور ما أن القبيلة حازت المجد من أطرافه !! ولأن الشاعر جزء لا يتجزأ من هذه المنظومة المتكررة فقد وصل به الأمر بعد ذلك إلى المفاخرة بنفسه وشعره فأبناء القبيلة أغروه بتصفيقهم له مما جعله يدعي أحقيته بلواء الشعر . 3 المجلات الشعبية وهي التي تشكل حجر الزاوية في انتشار هذه الظاهرة وترويجها فقد جعلت أرباع الشعراء نجوماً وأوهمتهم بأنهم الأفضل من خلال إفراد الصفحات لقصائدهم التعيسة ووضع صورهم على الأغلفة ليس حباً فيهم بل تسويقاً للمجلة ومقايضة لأمر ما!! هذه اللعبة جعلت الشاعر المسكين يصدق أنه أشعر الناس فأخذ يفاخر بذلك في قصائده التعيسة وهؤلاء يطبلون له حتى استمرأ المسألة وأخذ يتطاول بها في كل قصيدة ليؤكد أنه نابغة زمانه. 3 توزيع الألقاب على الشعراء فكل شاعر أصبح له لقبه الخاص الذي يعرف به فهناك (شاعر كذا وشاعر كذا وشاعر كذا..................الخ..غيرها من الألقاب المجانية التي تطلق على من يستحق ومن لا يستحق، وبالتالي ربما يخالج بعض الشعراء شعور بأن هذا اللقب يمثله على طريقة (قول وفعل وعزومي قوية ) فيصاب بجنون العظمة الذي يكرسه في شعره . 4 المسابقات الشعرية لا شك أن لها دورا كبيرا في تكريس هذا الاتجاه فقد شاهدنا عددا من الشعراء يفاخرون بأنهم أشعر العرب في حين أنهم جاءوا يتسولون إثبات شاعريتهم من خلال شهادة لجان التحكيم فالشاعر الذي يرى أنه أشعر الناس يعرف حجم شاعريته ويكون عنده اعتزاز بنفسه وبشعره فلا يجعل نفسه بين احتمالات الهزيمة والانتصار، ولم نشاهد في هذه المسابقات أي محاولة للقضاء على نزعة الأنا المتضخمة عند بعض الشعراء بقدر ما كان هناك تكريس لها ،إضافة إلى ذلك فقد أفرزت هذه المسابقات ألقاب خاصة لبعض الشعراء مثل (شاعر المليون)،(شاعر الوطن)،(شاعر الشعراء)،(شاعر العرب) وغيرها . 5 مواقع الشبكة العنكبوتية ومنتدياتها التي تعد بالآلاف وقد وجدت في كثير منها تطبيلاً منقطع النظير فما أن تدرج قصيدة لأحدهم إلا والجميع يرد عليه بالثناء العجيب حتى وإن كانت القصيدة أهزل من الكلب (المغلوث)، ازداد تأثير هذه المواقع بعد قيام الشعراء بتدشين مواقع خاصة بهم مما جعل الشاعر يعيش في أجواء الجماهيرية من المعجبين والمعجبات بالدردشة والماسنجر والرسائل الإلكترونية وغيرها؛ولد هذا الأمر إحساس لدى الشاعر بأنه سلعة مطلوبة في كل زمان ومكان فتوهم أن هذا الأمر مقتصر عليه وحده فأخذ يهذي بأنه أشعر العرب. 6 القنوات الفضائية وخدمة الجوال وهذان إنما هما امتداد للمجلات الشعبية والشبكة العنكبوتية ولا تختلف عنهما كثيراً إلا أنهما أكثر تطوراً في إرضاء غرور الشاعر نظراً لتضافر الصوت والصورة والانتشار ولم تقتصر وسائل الإعلام على إتاحة الفرصة للشعراء على تمجيد أنفسهم فقط بل امتد بهم الحال إلى التطاول على الآخرين ونفي صفة الإبداع عن الشعراء السابقين . *وأخيراً: عزيزي القارىء لم أجد ضرورة لإدراج أي أمثلة أو شواهد لهذا الموضوع لأن حصرها أصعب من عرضها ولم نشأ التركيز على شعراء معينين بل كان الهدف الوقوف على هذه الظاهرة المرضية ودراستها وتحليلها ولن نجد حرجاً بعد ذلك في إيراد الأمثلة التي بين أيدينا . وأعود لأناشد وسائل الإعلام المختلفة التي يجب عليها أن تؤدي رسالتها السامية في محاربة هذه الظاهرة فالشاعر في هذا زمن العولمة لا قيمة له بدون إعلام ، فأتمنى تجاهل من ينهج هذا النهج من الأغيلمة حتى يشب عن الطوق، فينضج فكراً وشعراً لأنه مازال يعيش طيش المراهقة الذي جعله يتوهم بأنه أشعر الخلق على طريقة القائل: إني وإن كنت الأخير زمانه لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل فمن يلقمه الحجر سوى الإعلام؟!