عثمان بن سيار ومحمد الفهد العيسى شاعران سعوديان أثرا في الساحة الأدبية، وقد سبقهما وعاصرهما شعراء سعوديون أثروا فيهما أو تطارحوا معهما الشعر، من أولئك أحمد الغزاوي وفؤاد شاكر، وحمزة شحاتة، وعبدالله الفيصل، وطاهر زمخشري، وعبدالله بن خميس، ومحمد حسن عواد، وإبراهيم فودة، وحمد الحجي، وعبدالله بن إدريس، وحسين سرحان، وعواض بن زاهر الألمعي، ومحمد بن أحمد العقيلي، ومحمد حسن فقي، ومحمد بن سعد المشعان، ومحمود عارف، وأحمد قنديل، وحسن القرشي، وسعد البواردي، وغيرهم من الشعراء السعوديين الذين ودعوا هذه الدنيا، أو يقيمون على ظهرها إلى أمد، إنه الحرف الشعري يرسم التواصل بين الأجيال، ويربط الجيل الواحد بروابط التفاعل البناء، فتتكون لحمة أدبية هي الوشيجة التي تربط شعراء هذه البلاد برابطتها شاءوا أم أبوا. إن التأثير والتأثر حاصل بين السابق واللاحق، بل هو حاصل بين شعراء الجيل الواحد، وليس بالضرورة أن يكون بينهم وئام ومودة، فالساحة الأدبية منهل يستقي منه هذا، ويعب من معينه ذاك، فقد يتأثر شاعر مجدد بشاعر تقليدي، لأنه قرأ له بيتاً ارتسم في ذاكرته، ثم أخذ مكانه في قصيدة له، بدون قصد منه، فإن نبه إلى ذلك في مجال نقدي قال إنه من توارد الخواطر، وقد يتأثر شاعر مقلد بقصيدة من شعر التفعيلة مع نفوره من هذا النمط الشعري، فلا يعي إلا وهو قد ضمن شعره مقاطعاً من تلك القصيدة، إن الساحة الأدبية مستقى للجميع، وهي القريبة من الشاعر، فلماذا التجاهل والقول بأن الشاعر السعودي تأثر بالشابي أو بالشعر المهجري أو بأدونيس وسعيد عقل وصلاح عبدالصبور ونازك الملائكة وفدوى طوقان وعمر أبو ريشة وإيليا أبو ماضي وغيرهم، إن إنكار الجميل ليس من صفة الشرفاء، فعودة الحق إلى صاحبه أولى من الإنكار المستمر وإذا كان الترابط قائماً بين الشعراء السعوديين علموا أو لم يعلموا، فلماذا الإشارة إلى شاعرين من مجموعة الشعراء السعوديين؟ وللجواب على ذلك أقول: عثمان بن سيار ومحمد الفهد العيسى جمعت بينهما الرومانسية الحالمة، وتأثرا بشعراء الرومانسية في الأدب المهجري، وببعض شعراء العربية مثل الشابي، فمحمد الفهد العيسى رومانسي على المستوى السعودي، ورومانسي على المستوى العربي، وابن سيار يقترب منه في الرومانسية، من خلال استقراء شعره، فهو يحلم ويتمادى في الحلم، ثم إن المؤثرات في الشاعرين متقاربة، فقد نشأ في زمن متقارب، وبلدتا الشاعرين المجمعة وعنيزة من أكثر المدن السعودية تقدماً وانفتاحاً على الأقطار العربية المجاورة، فقد فتحت المدارس النظامية في المجمعة وعنيزة في سنة 1356 هجرية في الزمن الذي رفضت فيه الرياض التعليم النظامي، فلم تفتح المدرسة النظامية الأولى في الرياض إلا بعد فتح المدارس في المجمعة وعنيزة بست سنوات، وكانت المدرسة التذكارية في الرياض أول مدرسة نظامية تفتح في العاصمة السعودية، وكانت مدرسة أهلية أسسها الأهالي، على أثر عودة الملك عبدالعزيز من مصر فعندما طلب منه أهل الرياض إقامة احتفال بمناسبة عودته، قال لهم اجعلوا ما تصرفونه في هذا الاحتفال في إنشاء مدرسة لأبنائكم، وكان توجيهه خروجاً من معارضة المتشددين بعدم فتح المدارس النظامية والاكتفاء بالمدارس الدينية، وتأثير البيئة في الشاعرين عن طريق تأثير مدينتيهما يظهر عند ابن سيار الذي درس الابتدائية في المجمعة أكثر من ظهوره عند العيسى الذي نشأ في المدينة، وإن كان ارتباط الأسرة بعنيزة قائماً عن طريق الزيارة، وعن طريق تأثر الأسرة بعادات البلد، إلا أن تأثير بيئة المدينة في العيسى ظاهر بجانب تأثير الأسرة التي يعيش بين أفرادها، والتي هي أسرة تحمل كل عادات عنيزة وتقاليدها، ونلحظ مؤثراً دينياً في الشاعرين، ذلك أن العيسى درس في المسجد النبوي في المدينة، وابن سيار درس في دار التوحيد في الطائف، فدار التوحيد تسير على نمط التعليم النظامي، والدراسة في المسجد النبوي تسير على طريقة الحلقات، وقد استمر ابن سيار في التعليم النظامي في الدراسة الجامعية، وأخذ نصيباً من الدراسات العليا، وتلك الدراسة النظامية أثرت فيه، وأكملت له أداته اللغوية، أما العيسى فقد واصل دراسته في المدارس النظامية، حيث وقف عند التعليم العام، ولذلك فإن أداته اللغوية يعتريها شيء من النقص، ولكن طبعه الشعري يغمر المتلقي بالإيحاء الشعري، فيعجب بشعره، ولا يلتفت إلى الخلل اللغوي، ويؤثر في الشاعرين مؤثر قوي هو مؤثر القراءة والإطلاع، فالشاعران يشتركان في الرغبة في القراءة، فقد اطلعا على دواوين الشعر العربي، القديمة والحديثة، وقرآ في الكتب التراثية، والكتب الحديثة، بالإضافة إلى التأثر بما ينشر في الصحف والمجلات، وإن كنا نرى تأثر العيسى بالتطور الشعري العربي أكثر من تأثر ابن سيار، فحياة العيسى في تطور مستمر، يظهر ذلك في إنتاجه الشعري، وبإكثاره من شعر التفعيلة، فدواوين العيسى الكثيرة تعكس طبعه الشعري من ناحية، وتعكس الاستمرارية في صناعة الشعر، وتأثر العيسى وابن سيار بالعمل، ولكن تأثير الوظيفة في ابن سيار أقل، أما المؤثر الذي يظهر في شعر الشاعرين فهو السفر والتنقل، فالعيسى فرضت عليه الوظيفة التنقل فهو سفير لبلاده في بلدان مختلفة، فالتنقل من عمله، فلا نستغرب بروز ذلك في شعره، بل إن هذا التنقل أكسب شعر العيسى نمطاً خاصاً من الرومانسية، بالإضافة إلى القلق والحنين إلى الوطن، أما ابن سيار فتنقله من أجل السياحة، وقد أثرت السياحة في شعره إلى درجة كبيرة، فلو تتبعنا شعر الشاعر لوجدنا أن جله جاء من تأثير السياحة والتنقل، وأن الرومانسية الشعرية برزت في شعره المتأخر أكثر من بروزها في بداياته الشعرية، ذلك أن ابن سيار أطلق لشاعريته العنان، ولم يقيدها بأي قيد، ولذلك فإنه لم يلجأ إلى الرمز كما يعمل العيسى في بعض قصائده، حيث عانى العيسى من المعارضات والنقد، وقد أثرت فيه تلك المعارضات، أما ابن سيار فلم يعان ما عاناه العيسى، فهو طائر مغرد ينتقل من غصن إلى غصن، في حرية تامة، يقول ما يشاء، عاش الحب، ومع الحب، وفي الحب، رحل معه، وحل معه، وجاوره، ونام معه، وقام معه، ومشى معه، فهو ملازم له في حياته، يقول: إنه الحب في الحياة رفيقي طالما طار بي بكل مطار وسقاني شتى الكؤوس فطورا أشتكي ظلمه، وطوراً أواري أنا في الحب شاعرٌ تعرف الأي ام وجدي ويعرف الحب ناري طالما غنت الشجون لحوني طالما ردد الأسى أفكاري لي مع الحب ذكريات فهل يع طف يوماً لدائم التذكار ويقول: أنا جربت أفانين الهوى وعرفت الوجد في كل أوان ويشترك العيسى مع ابن سيار في ملازمة الحب في قوله: ما أضيع العمر لولا الحب يغمره عطفٌ يؤمل في اللقيا لمفتون فهل نقول إن السفر هو الذي دفع الشاعرين إلى الإكثار من شعر الغزل والتغني بالحب والوجد؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فلا نبعد عن الواقع، غير أن المؤثرات الأخرى لها نصيبها في شعر الشاعرين. ومن خلال النظرة الفاحصة في شعر ابن سيار والعيسى نلحظ الاتجاه إلى الشعر الوجداني، شعر الحب الممزوج بالطبيعة، وشعر القلق، وهو عند العيسى أكثر من وجوده عند ابن سيار، وشعر الغزل أكثر منه شعراء العربية، فشهرة امرئ القيس ارتبطت بالتوسع في الغزل والوقوف على الأطلال، وقد اقتفى الشعراء أثر امرئ القيس، فجعلوا الغزل في صدر قصائدهم، وإذا كانت الرومانسية هي مزج الطبيعة بالحب فإن شعراء العربية قد صاغوها في أشعارهم وإن لم يسموها باسمها، فالشاعر القديم ربط الطبيعة بالحب، فأخذ عيني البقرة الوحشية من الطبيعة وقرنها بعيني محبوبته في أشعاره، وأخذ من الطبيعة عنق الغزال وقرنها بعنق محبوبته وربط بين ثغر المحبوبة وزهرة الأقحوان، وأخذ من الطبيعة أنقاء الرمال وجمع بينها وبين مأكمة محبوبته، وقرن رائحة الحبيب برائحة الروض وبعض الشعراء عد محبوبته من جنس الوحش وهو يقصد اكتساب بعض الصفات، فالطبيعة والحب صنوان لا يفترقان، لكن الرومانسية الحديثة التي انتهجها العيسى وابن سيار هي الرومانسية الأوروبية، فالعيسى مغرم باقتفاء أثر شعراء الرومانسية، وابن سيار يسير فيها باعتدال، فشعر الحب عند الشاعرين يتأجج بالعاطفة، والعاطفة الجياشة تصنع الألفاظ الرقيقة والموحية، والعبارات الجميلة، والصور المعجبة، والشعر المؤثر، والافتتان بالطبيعة ومزجها بالحب ركن أساس في شعر العيسى، ثم في شعر ابن سيار، يقول العيسى: التقينا نترع الأنخاب، عبا أثملتها شفتانا ويقول: التقينا صفقي ياكل النجيمات وغني للقانا ويقول: ينثرني الشوق بين الماء وبين الحسن شيحاً قيصوماً للغيد وسائد تنشدن الغيد على القيثار وتعرفني لحناً نجدياً من (روض التنهاة) شرائد هكذا يسير العيسى في تجديده، ورومانسيته، التي تصاحبه في قصائده الوجدانية، سواء كانت تسير على الطريقة العمودية أم على شعر التفعيلة، ويظهر في المقطوعتين الأخيرتين مزج الحب بالطبيعة، بل إنه احتفل بالطبيعة، وخاطبها، وربط شعره بالمكان ونباته. ويلتفت ابن سيار إلى الطبيعة في نظرة رومانسية: وجاء الربيع؟ يناجي الغصون! يغني لقلب حزين! ويهمس للجدول النائم! تدفق إلى روضك الهائم! ويقول: مع النسيم، مع ضوء القمر مع السحاب، مع نفح الزهر أرسلت للنائي تحايا فؤا د آده ليل الأسى والسهر وإذا كانت الرومانسية ملازمة للعيسى، في حبه، ومناجاته الطبيعة، فإنها تختلف عند ابن سيار الذي يهرب من رومانسيته في بعض قصائده الغزلية فيلجأ إلى الغزل الحسي أو الصريح، مبتعداً عن الغزل العذري، مصرحاً بما يريد في ثورة عارمة، مصدرها الوجدان، فتصنع العاطفة الجياشة الألفاظ التي يريدها الشاعر، وتحددها تحديداً يلبي رغبات نفسه، وقصيدته: (أشتهيها) التي مطلعها: أشتهيها قداً، وخداً، وجيدا وفماً راعف الشفاه عنيدا توقفنا على نزعات نفس ابن سيار، وأنه شاعر ينطق بما توجهه إليه عواطفه، في حرية تامة، بدون قيود يصطنعها، أو تصنع له. ويشترك الشاعران في شعر الاغتراب والقلق، ولكن العيسى يتقدم على ابن سيار في هذا النمط من الشعر، فالعيسى واحد من رواد الاغتراب الشعري، فالشكوى بادية في كثير من أشعاره، فهو يميل إلى هذا النوع من الشعر منذ بدايات شعره، ثم استمر معه، وصاحبه في دواوينه، فالشاعر يرتاح إلى صناعة هذا الشعر، ويرى أنه يلبي حاجة في نفسه، فقد بدأه مقلداً، ثم استمرأه، ثم دفعته إليه الأحداث التي صاحبت حياته، وهذا ما يفسر لنا وفرة شعر الاغتراب عند العيسى، ثم إن العيسى مغرم بمتابعة الشعراء العرب، الذين يسيرون في هذا الاتجاه، فالاغتراب قد طغى على الشعر الحديث ووجهه، بل إنه هو القاسم المشترك بين الشعراء المجددين والرومانسيين، فالشكوى والقلق والاغتراب في شعر العيسى رغبة منه أكيدة، في مشاركة الشعراء الآخرين في صناعة هذا النوع من الشعر، والذي يظهر لي أن شعر الاغتراب عند العيسى ليس جزءاً من تكوينه النفسي - مع كثرته - وإنما هو ناتج عن الرغبة الأكيدة لديه أن هذا النوع من الشعر لازم للشاعر المجدد، أما وجود الاغتراب عند ابن سيار فهو خاضع للحالة النفسية التي يمر بها، فإذا مرت به تلك الحالة صنع قصيدة الاغتراب، بدون رغبة تدفعه إلى متابعة الآخرين، فابن سيار يوجهه شعره ولا يوجه شعره، ولذلك قل عنده شعر الاغتراب، فمشاركته للشعراء الآخرين في هذا النوع من الشعر راجعة إلى طبيعته الشعرية، وليست ناتجة عن قناعات بتوجه فكري يجعل له مكاناً بين أولئك الشعراء. ومن شعر العيسى في الاغتراب: فؤادي تصبر ولذ بالحذر فأنت وحيد بدنيا البشر ويقول: ويحنو عليَّ الظلام الطويل وفيه العزاء، وفيه الخطر ويقول: حياتي على منحنى. محاط بألف وجه صقيع. تحدق فيَّ، غباء. أعين، أحداقها ميتة. خرساء. حجر. ويقول ابن سيار: مدلي في زاخر اليم يدا يوشك التيار بي أن يشردا واصطخاب الموج يحدوني إلى الشاطئ الأبعد، فامدد لي يدا ويقول: طويت البلاد وفي غربتي مضيت ترافقني شقوتي وفي كل أرض تغنى السرور أعيش تنادمني وحدتي وقد أسهم الشاعران في الشعر التقليدي بقدر متفاوت، فشهرة العيسى بكونه شاعراً مجدداً لم تبعده عن أصوله العربية، فقد كان يقتني دواوين العرب القدماء، وأول تلك الدواوين ديوان امرئ القيس، وقد تأثر بها، وصنع قصائد جيدة، اقتفى فيها أثر أولئك الشعراء، وحتى شعره الذي شارك فيه الشعراء العرب المجددين، فيه استلهام للتراث، وإن جاء على نهج شعر التفعيلة، ولا يغض من الشاعر صنع القصيدة التقليدية، فالفصل في ذلك جودة القصيدة، وتأثيرها في الملتقى، وإذا رجعنا إلى التجديد والتقليد في العصر العباسي وجدنا المجدد: (أبا تمام) له مكانة، ووجدنا المقلد: (البحتري) له مكانة، وقد تطور النقد وتقدم بسبب الاختلاف بين الشاعرين في مسألة التجديد والتقليد، وابن سيار قد يتأخر عن العيسى في التجديد لكنه يتقدم عليه في صنع القصيدة التقليدية، فالمؤثرات في شعر ابن سيار من دراسته في دار التوحيد، والدراسة الجامعية وما فوقها، بالإضافة إلى عمله هيأت له القدرة على صناعة القصيدة العربية، التي تسير على سنن القدماء بحيث ترتبط بعمود الشعر العربي ارتباطاً قوياً، من تلك القصائد عن ابن سيار قصيدته: (عديني) التي مطلعها: عديني بالوصال، وأخلفيني أجد بعض اللذاذة في ظنوني وقصيدته: (طيفها) التي مطلعها: يراوحني منك الهوى وأباكره فلا هو ينساني ولا أنا ناكره وإذا قرأنا في دواوين الشاعرين وجدنا التجربة الشعرية تتوافر في قصائد العيسى وابن سيار، من عاطفة، وأحاسيس ومشاعر، وخيال، وفكر، وموسيقى، ولذلك فهما منصرفان إلى همهما الشعري، الذي تميل إليه عاطفتيهما، فقضايا الأمة العربية، وقضايا المجتمع، والأسرة، والتطور والتخلف، قليلة في شعر العيسى، ونادرة في شعر ابن سيار، والإبداع لا يقتصر على نمط من الشعر، فكل مجالات الشعر أبدع فيها الشعراء، فعمر أبو ريشة أبدع في أنماط الشعر المختلفة، فقصيدته: أمتي، هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم يتوافر فيها الإبداع، بجانب قصائده الأخرى، وحتى نزار قباني، الذي اشتهر بشعره الغزلي، له قصائد جيدة في غير الغزل، ولا ينقص من قيمة شعر ابن سيار، وشعر العيسى هذا النقص، فشعراء الحب العذري في شمال الحجاز، ومن سار على طريقتهم من شعراء نجد، اشتهروا بأشعارهم الغزلية، وقد لامهم الآخرون على ذلك الالتزام، فقال جميل بثينة: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد فابن سيار والعيسى أبدعا في نمط من الشعر، وبرزت فيه مقدرتهما الفنية، فالصدق الفني يصحبهما، حيث يغمر المتلقي بالإعجاب، فإذا قرأنا بيتي ابن سيار: تذكرت - حيران - يوم السفر حبيبي، وقد أغرقته الفكر تذكرته تستحم الشجون بألحاظه، وتغيم الصور وقفنا على صورة معجبة، صنعها خيال خصب، أثارته عاطفة جياشة، استجابت لموقف النأي والفراق، فالفن الراقي استجابة لمواقف توحي إلى الشاعر بصناعة الشعر الجيد. وليس للشاعرين قدم ثابتة في طرح الأفكار المثيرة، والحكم الخالدة، التي يتناقلها الناس من جيل إلى جيل، وإنما شعرهما نزعات نفس، تستجيب لعواطف. وليس معنى ذلك أن من سار في طريق الشعر الوجداني انفرد بنمط شعري، وأغناه عن غيره، فأبو نواس أبدع في شعر الغزل، ومع ذلك فقد طرح أفكاراً تنازعها النقاد والمفكرون جيلاً بعد جيل، فمنهم من يناقشها، ومنهم من يرددها، ومنهم من يوجه قول الشاعر إلى ما يريد، والصدق الفني في الشعر يدخل الشاعر في فئة الشعراء، وهذا ما يطمح إليه الشاعر، فالعيسى وابن سيار شاعران يتوافر في شعرهما ما يطلب في الشعر من عاطفة وأحاسيس ومشاعر وخيال وصور وموسيقى، ولا يضيرهما نقص هو من صفة الحكماء، قيل لأبي العلاء المعري أي الثلاثة أشعر (أبو تمام أم البحتري أم المتنبي؟ فقال: حكيمان والشاعر البحتري) فأبو تمام والمتنبي والبحتري شعراء كبار، وإن تقدم البحتري بشاعريته، وتقدم أبو تمام بتجديده، وتقدم المتنبي بحكمه، وابن سيار والعيسى من الشعراء الكبار في المملكة العربية السعودية، ويعدان من شعراء العربية في العصر الحديث، فإسهامهما في التجديد ودفع عجلة الشعر إلى الأمام يثبته شعرهما، وشهادات الدارسين لهذا الشعر.