يكشف التنقيب في تراثنا الشعري الواسع، عن وجود حالات إبداعية لم تأخذ رغم دفقها الشعري حضورها، وربما تتعدد الأسباب في ذلك، والتي يأتي في مقدمته غياب مشاريع التدوين والتوثيق في فترة من الفترات التاريخية، مما أدى إلى ضياع الكثير من ملامح ذلك الإرث الجميل. وأحاول عبر هذه المساحة بين الفينة والأخرى الوقوف على عدد من تلك التجارب والتي غابت عن مسرح التدوين، رغم بقاء نصوصها في صدور الرواة وذاكرة عدد من المهتمين شاهداً على جودة ما تركته من شعر يخشى ما لم يسارع لتدوينه أن يذهب أدراج الرياح. ولعل تجربة الشاعر نجا بن محسن بن عبدالله بن صليهم الحسيني تعد واحدة من تلك التجارب الشعرية التي تستحق الدراسة، وقد اشتهر نجا بن محسن بلقب (نجا ابن مزانه) ومزانه هذه هي والدة الشاعر وهي بنت مبارك بن شديد الحسيني، حيث مات والده صغيرا فتولت والدته تربيته هو وأخيه ناجي والد الشاعر المعروف مبارك بن ناجي. وبحسب الباحث الدكتور محمد بن راضي الشريف فقد ولد شاعرنا نجا بن محسن في بدايات القرن الرابع عشر وتوفي سنة 1361ه وقد اشتهر بكرمه حتى أصبح مضرب المثل، إذ نجد شاعرا يهجو شخصا فيقول له: تحسب انك زيد والا ابن مزانه والا أبو سفران حامي الشوشلية ويروى عن الشاعر نجا بن محسن أنه أصيبت يده اليمنى في فترة من الفترات بقرح فقال: يا الله يا عالم خفيات الأسرار يا عارف سر البنادم ونجواه تفرج ليمنى في مرضها لها دار والدار الآخر باقين بكره أتلاه يا عنك ما هست على حاجة الجار ولا قط أشاحت للجماعة بالأهواه ألا اليا جونا مودين الأخبار تصبح بها أرقاب المطايا محناه وكانت قد اختارته شركة التعدين الأمريكية، التي تولت استخراج الذهب من منجم مهد الذهب المعروف جنوبالمدينةالمنورة، وذلك في بدايات الخمسينات الهجرية ليشرف حينها على فتح طريق يصل المهد بمدينة جدة، فقال الشاعر نجا واصفا الطريق وما يمر به من عقبات وصعاب مخاطبا رفاقه الذين يطلبون الرخصة للعودة إلى أهاليهم، ومستشعرا كذلك حجم المهمة الملقاة عليه وهي بالمناسبة قصيدة يذكر فيها الشاعر عدداً من المناطق القروية في تلك الديار: ترى الدرب يا ناصر يبى ينطح الجوبه يحط النجيل يمين والبركه المادي تنصى مغيب الشمس مع راس قردوبه توطى حماه ومدركة قدها غادي لحاليح ضلعانٍ قحاطيب ونقوبه يبيد الحديد وقايم الدرب ما انقادي ومن يطلب الرخصة ترى كن به نوبه ما دام المواتر ما اكثرن التردادي اقوله وانا ما هاضني ود خرعوبة مضى لي ورا حولي ربيعين وجمادي وقال مخاطبا الجبل المستخرج منه الذهب: يا ضلع جوك أهل العتل والفواريع من كل حيد مرسمينك بالاوتاد من عام الأول سبّروك الطماميع بمواتر(ن) تكثر عليك التردّاد يوم احشكوا لك ماش حولك موانيع ثم احظبوا لك مثل حظبة هل الزاد كل(ن) يجي ويقول ممنون ومطيع واللي مضى لك في أول الهجره أعاد وقال مخاطبا ابن أخيه الشريف مبارك بن ناجي الذي انتقده شعرا على سبيل المداعبة بمناسبة موقف طريف، فجاء رد عمه جادا وقاسيا والأبيات تشير بالمناسبة إلى شاعرية مبارك بن ناجي المبكرة بشهادة عمه: يقوله اللي رد قافه بعد شاب وقد تاب قدم الشيب تبدي مواريه زمان كون جراب تايب على الباب ملعون حيٍّ شاف عيبي وكانيه هيض علي اللي يغنّي ولعّاب له روح ما هو دارين وين يغديه ورعٍ ينبنب بالمثايل تنبناب نبناب تيسٍ في مضانين راعيه وأُرسلتْ له قصيدة فيها شيء من الانتقاد على بيت شعر قاله فرد عليها بقوله: جتنا من الربعة ذلول وحيده وبغيت أطرش في نحاها مطايا والينها قشرا لحوح لهيده عرا وعريه وأهلها عرايا من العقل ما هو من هدوم سميده والا من الزيله تراهم رهايا غنيت ما قلت اللحون النقيده أرد قاف مثل تمر الودايا ذكرت من سيق الذهب في جديدة اللي يليم له حسين الشرايا هو من عروض الكيف للي يفيده يا اللي تعرفون السقوط اللوايا السقط كيف اهل النفوس الزهيده اليا توصلنا العلوم القصايا وكيفي اليا جات العلوم الوكيده عيّا عليه الله وجا له حمايا تلحقوني في الديار البعيده أهل التلقف والعلوم الوهايا وكم واحد في قيسه انه وليده يمسن من دوني ركابه رذايا وله من الحكمة: كلًّ يبي في الراس زومي مير اللوازم يتعبنا لن جاتك الاشيا شمومي تبي سيوفٍ يبتعنا وله كذلك: لو كل رجل عارفٍ وقم قيسه ما كان بعض من العرب في الوحل مال دنياك هذي كلها خندريسه اللي منوّل محتذي صار خيال فرحم الله شاعرنا.. وعلى أمل أن نعثر على المزيد من نصوصه الشعرية لتوثيقها وإلى لقاء قريب مع تجربة شعرية أخرى.