تخلق التوترات وسرعة الأحداث وتهافت التصريحات أوهاماً وضبابية فيما يتعلق بخلفيات السياسة ومقاصدها الحقيقية. وهذا ما يمكن أن ينطبق على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط خلال هذه المرحلة. ويتشارك في هذا الاضطراب صانعو السياسة الأميركية أنفسهم، وأنظمة الحكم في المنطقة، وشرائح اجتماعية واسعة. ويعتقد، ريتشارد بتس، صاحب كتاب "أعداء الاستخبارات" (أكثر الكتب مبيعاً ضمن مجتمع الاستخبارات) أن التحدي الأصعب للاستخبارات ومن ثَمّ السياسة الأميركية، هو معرفة طبيعة التحركات الحاصلة حالياً، ويميل إلى الاعتقاد " أننا (الأميركيون) لا نعرف كثيرا عن ذلك". ويعتبر أن أحد أسباب هذا العجز هو النقص في فهم اللغات الأخرى بناءً على تصوّر خاطئ يقضي بأن على الجميع أن يعرف الإنكليزية. وعليه، لفهم حقيقة المواقف والسياسات الأميركية تجاه المنطقة في هذه اللحظة الشديدة التعقيد والتغير، لا بد من فهم الجوهر الذي يعتقد الأميركيون أنه قطب الرّحى لمصالحهم الاستراتيجية في الشرق الأوسط. ولذا من المفيد الابتعاد قليلاً عن صخب الأحداث، والالتفات إلى ما يدور من نقاشات في أروقة واشنطن. ولهذه الغاية، جرت متابعة جملة شهادات في لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، وخلاصات لباحثين بارزين في السياسة الخارجية الأميركية. انطلاقاً ممّا ذكرناه عن الضبابية والتعقيد، يبدأ مايكل ماكوفسكي شهادته أمام اللجنة الفرعية للشرق الأوسط وجنوب آسيا، من خلال التذكير بإحدى ميزات، وينستون تشرتشل، والمتمثلة في تصميمه على تحديد الأهداف ضمن أولويات والسّعي إلى تحقيقها على حساب القضايا الأقلّ أهمية، "وهذا ما تحتاج إليه الولاياتالمتحدة في هذه اللحظة بالتحديد". وعليه لا بد من تحديد مصالح الولاياتالمتحدة الأساسية ، وهي بحسب المتحدث: التدفق الآمن للنفط، وإسرائيل آمنة، وإضعاف الإسلام المتطرف والإرهاب وهزيمته. ولكن " تهديدً وحيد يمكن أن يهدّد هذه المصالح الثلاث، أكثر من غيره: إيران نووية". ولذلك يجب أن يبقى منع قيام إيران نوويّة "هدفنا الأسمى الذي يرشد سياستنا وسط غموض الأحداث". فالحرية يجب أن تلهم السياسات الأميركية متى كان ذلك ممكناً، إلاّ أنّ الأولوية، بحسب ماكوفسكي ، هي مواجهة التحدّي الإيراني الذي يهدّد مصالح أميركا الاستراتيجية. وقد كان هذا التحدّي الإيراني المستفيد الأكبر من التحوّلات العربية إلاّ في سورية، بحسب ماكوفسكي، وسوزان مالوني، من مؤسسة كارنيجي. كما أنّ ضعف ثقة حلفاء واشنطن بها قد يدفعهم إلى التقارب مع طهران، وهذا ما يستوجب إعادة ترميم الثقة بسرعة. يعتقد ماكوفسكي أنّ الصراع في ليبيا أشاح النظر عن التهديد النووي الإيراني الذي لم توقفه العقوبات أو الفيروس أو قتل العلماء، بل ما زالت قدراته تتطور. لذا يجب التركيز على مزيد من العقوبات على إيران مع إعطاء مصداقية وجدّية للخيار العسكري وإظهاره، وتهيئة الرأي العام إلى سيناريو كهذا. في الخلاصة، يكرّر ماكوفسكي أنه " يجب علينا ،قدر الإمكان، رعاية التحرّر في المنطقة، ولكن ردّنا على التطورات يجب أن يستند أوّلاً إلى الحاجة لمنع إيران من تطوير قدرات نووية عسكرية باعتباره التهديد الاستراتيجي الأهم لنا". أمّا جون بولتون "الشهير"، فوجد من مسؤوليته في هذه اللحظة أن يذكّر بأولويّة التهديد النووي الإيراني على كلّ التطورات في المنطقة والذي لا بدّ أن يبقى في واجهة الأحداث، مبرزاً جملة من التقديرات والدراسات المتعلقة بنفاد الوقت اللازم للتعامل مع إيران، ومشدّداً على وجود تعاون نووي سرّي إيراني- سوري. لم يلتفت "بولتون" مطلقاً في شهادته "إيران وسورية: الخطوات المقبلة" إلى كل ما يجري في الشرق الأوسط خوفاً من أن يؤدّي ذلك إلى حرف الأنظار عن إيران، إلاّ عندما انتقد إدارة أوباما لتردّدها في اعتماد الخيار العسكري في سورية كما فعلت في ليبيا. من جهته يفيد، "روبرت ساتلوف" - مدير معهد واشنطن- في شهادته في المناسبة ذاتها بأنّ "القضية الملحة في شأن سورية ليست في إمكان نجاح السوريين في إسقاط نظام الأسد أو إفلات النظام من السقوط، بل هي في توجيه ضربة مؤلمة، إلى المحور المعادي للغرب والديمقراطية والسلام والذي يمرّ عبر دمشق"، تغير النتائج الاستراتيجية للمواجهة مع إيران. وفي الموضوع الإيراني يحذّر "ساتلوف" من أنّ التطورات في العالم العربي حرفت النظر عن التهديد الإيراني وهذا ما يجب تجنّبه بسرعةِ، وقد أصبح التهديد النووي الإيراني أكثر جدّية الآن عمّا كان عليه قبل "الربيع العربي"، ولذا يجب الخوف من اعتياد المجتمع الدولي على فكرة إيران النووية وبما يجعله يتقبّل هذا الوضع ويتساكن معه عند حدوثه. وممّا يثبت هذه " الرؤية "النفقيَة" الأميركية للشرق الأوسط المنحصرة في إيران، ما خلص إليه تقرير ل "نيويورك تايمز" بعنوان " المباراة الأكبر في الشرق الأوسط : إيران" ، وهو أنّ موقف الولاياتالمتحدة من التطوّرات والثورات العربية مقيّدٌ ومحكوم بمدى تأثير كلٍّ منها في الحسابات الأميركية الاستراتيجية بشأن احتواء القوّة الإيرانية في المنطقة. وكذلك يؤكّد رئيس المجلس القومي الأميركي-الإيراني، من خلال لقاءاته المتكررة مع مسؤولي الإدارة الأمريكية "أنّ الهاجس الأساسي بشأن التحوّلات المستمرّة في الشرق الأوسط هو مدى تأثيرها في المواجهة الأميركية- الإيرانية". إنّ الولاياتالمتحدة تقارب الشرق الأوسط من منظار إيراني، وهو ما يؤثّر عميقًا في كيفية تشكيل سياساتها للاستجابة إلى "الربيع العربي". وينتقد "سكوت لوكاس"- محلل الشؤون الإيرانية في جامعة بيرمينغهام- أيضاً هذه المقاربة الأميركية الضيّقة للشرق الأوسط والتي تؤدّي إلى تجاهل الأوضاع الداخلية لدول المنطقة، وحاجة الشعوب الماسّة إلى الشرعية السياسية. وما حدث في مصر ليس إلاّ من انعكاسات هذه السياسة التي لا ترى في دول المنطقة أو مواطنيها إلاّ بيادق في المباراة الكبرى ضدّ إيران. في الخلاصة، يدرك الأميركيون أنّ هذه ليست لحظة الخيارات الكبرى بالنسبة إلى أوباما المسكون بهاجس الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتدهور المالي- الاقتصادي الحادّ؛ وهو يدرك أنّ تحسين الاقتصاد الأميركي هو المفتاح السحري لعقول الناخبين الأميركيين وقلوبهم في الانتخابات المنتظرة.