تفاجأت روسيا من الهزات التي وقعت في الشرق الأوسط في الفترة الأخيرة، وأفقدتها قدرتها على تحديد الطريق الصحيح على ضوء الواقع الجديد، والتي تميزت بعدم الاستقرار والغموض. قادت رغبة روسيا في الحفاظ على مكانتها في الشرق الأوسط زعمائها للبحث عن البدائل السياسية في محاولة للاندماج في المنطقة في المستقبل. فالتقديرات الروسية لها وجهات؛ فهي من ناحية تواجه الخطر من فقدان الإنجازات السابقة، والتي قد تتأثر مباشرة، خاصة فيما إذا وقع لديها عملية مماثلة من العصيان المدني في داخلها، ومن ناحية أخرى إمكانية الاستفادة من التغييرات الثورية من خلال إعادة تقييم دورها الإقليمي. ويبدو أن روسيا عازمة حقاً على تعزيز المبادرات السياسية الجديدة مع جميع الجهات في المنطقة، وخاصة على القناة الفلسطينية الإسرائيلية. مع بداية الأحداث التي وقعت في الشرق الأوسط لم تبد روسيا قلقها، خاصة وأنها كانت تعتبر أن الدول العربية مستقرة ومن المستبعد أن تنهار، خاصة تلك الدول التي تقيم علاقات اقتصادية كبيرة مع روسيا (فمع ليبيا لوحدها وقعت روسيا اتفاقاً على بيع أسلحة تبلغ قيمتها نحو 4 مليارات دولار، ومن غير الواضح ما الذي سيحدث الآن وماذا سيكون مصيرها) هذا إلى جانب التعاون في المجالات السياسية التي تم نسجها على مر السنين بعد الجهود الكبيرة (بما في ذلك التحالفات المعادية للغرب). تعتقد القيادة الروسية الحالية أن الثورات في الشرق الأوسط أدت إلى تغييرات بعيدة المدى، وأن تأثيرها سيتواصل لسنوات عديدة. ومن بين التداعيات السلبية التي تميز المرحلة الانتقالية الحالية هناك أمرين وهي : الأول؛ هناك تهديد مباشر موجه إلى روسيا بسبب (الإسلام المتشدد) الذي ربما يسيطر على دول الشرق الأوسط عقب الثورات. وربما يؤدي هذا النموذج السلبي للأحداث في الشرق الأوسط قد يقدم نموذجاً لدول إسلامية أخرى تقع إلى جوار روسيا ثانياً: هناك مخاوف من أن اعتماد المنهج الديمقراطي في الحكم في الدول العربية كنيجة لهذه الثورة قد يؤدي إلى ابتعاد هذه الدول عن التحالف مع روسيا باعتبار ذلك منافيا للسيادة الوطنية، وفي المقابل من الممكن ان تدخل دول منافسة لروسيا في المنطقة مثل الصين. ومع ذلك فيمكن أن نذكر بعض الجوانب التي تصب في منفعة المصالح الروسية؛ فمثلاً : في المجال الاقتصادي والذي يتمثل في الارتفاع الحاد بأسعار النفط، وهو ما يضمن لها على الأقل في الوقت الحالي أرباحاً مرتفعة مما يجعلها مصدراً هاماً لنقل الطاقة. بالإضافة إلى إمكانية نجاح روسيا في تطوير علاقات إيجابية مع الأنظمة الجديدة. وربما أيضاً تستطيع تشكيل كتلة سياسية جديدة داعمة لها. وفي النهاية تتحول التطورات الحاصلة في الشرق الأوسط إلى وضع إيجابي بالنسبة لها. النشاط الدبلوماسي الروسي على ضوء الأحداث اتسم بالمرونة ملحوظة في وقت سابق. ثم عملت روسيا على التخلي عن الأنظمة المنهارة، ودعم قوات الثوار؛ وحتى إن كان ذلك يشمل عدم ارتياحها في التعاون مع دول الغرب، عدا عن كونه مخالف للرأي العام الداخلي في روسيا الداعم للأنظمة العربية السابقة. وهذا الأمر ظهر جلياً في الوضع الليبي. عندما قرر الرئيس الروسي ميدفيديف في نهاية الأمر تأييد قرار الأممالمتحدة حول العقوبات ضد نظام القذافي، دون الاعتراض على القرار رقم 1973.وهذا القرار أدى إلى انتقادات عارمة وخاصة من جانب رئيس الحكومة فلاديمر بوتين (والذي كشف بعد ذلك عن وجود اختلاف في وجهات النظر في القيادة الروسية).ومع ذلك وعلى الرغم من هذا الدعم، فإن روسيا لا تزال تعارض استخدام القوة ضد أي دولة أخرى في المنطقة. هذا السلوك المميز للتحرك، والذي يبعث برسائل مزدوجة يعكس نية الاستفادة الروسية من جميع الأطراف: الإبقاء على وجود علاقة جيدة مع الغرب والولاياتالمتحدة أولاً وقبل كل شيء، وأيضاً الاستعداد لتحسين العلاقة مع القيادة الليبية المستقبلية ولفقاً لمبدأ مماثل. ومحاولة كسب عدد من النقاط في الساحة الدولية. هذه السياسة تعكس المعضلة الروسية بشأن الأزمة في الشرق الأوسط، التي تقع بين احتمال قيام أنظمة ديمقراطية تكون أكثر استقلالية في تعاملها مع الدول الكبرى، وبين احتمال تعاظم صعود القوى المتطرفة غير المريح لها كذلك. ويبدو أن الأنظمة الشاملة المعتدلة، والتي تشارك فيها جهات إسلامية غير مؤيدة للتوجهات الغربية بشكل واضح هو الحل الأكثر احتمالاً. وجدير بالذكر أن عدداً من الزعماء الروس يوجد لديهم شعور متزايد حول ضعف الولاياتالمتحدة في الساحة الدولية، وهذا الشيء يزيد من طموحات روسيا في استغلال الفرص لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، والنظام الدولي بأكمله. وفي الواقع يوجد الآن نشاط روسي في دول الشرق الأوسط، والذي يبث تقديراته في تعزيز مبادرات سياسية جديدة بما في ذلك القناة الإسرائيلية – الفلسطينية. وفي هذا السياق فإننا نشاهد سلسلة من الاتصالات المكثفة مع معظم الدول في المنطقة. ويشمل ذلك تزايد بارز بالنسبة لزيارات موسكو. ورافق كل هذه الزيارات رسائل روسية تتعلق بأهمية تجديد العملية السلمية في الوقت الحالي بالذات؛ نظراً لاحتمال التأثير الإيجابي لتهدئة الوضع في المنطقة.