أتى وزير خارجية روسيا الى الشرق الأوسط وهو يحمل على كتفيه أوجاع الادارة الروسية ورؤيتها الضبابية الممزوجة بالمصالح والمطامع والاستعلاء بشأن الأزمة السورية وبالتالي حيرتها أمام السياسات الأنسب أو التي يجب أن تتبع تجاه حل الأزمة السورية مثل استخدام مبدأ (سيادة الدولة) أو منع وصول السلفيين الى سدة الحكم في سوريا. وعكست تصريحات وزير الخارجية الروسي عن توسيع جبهة الاحتواء المزدوج في استخدام مبدأ (سيادة الدولة) أو محاولة منع السلفيين من الوصول الى السلطة في سوريا، وضم حلفاء لهذا الاسلوب الروسي مثل الصين وايران. لذلك قدم هذا الاسلوب الروسي دليلاً دامغاً على حالة التخبط الارتباك التي تطبع السياسة الخارجية الروسية تجاه الآزمة السورية، حيث جاءت هذه السياسة أو الأسلوب الروسي نتاجاً لحالة تربص قاطعة وغير مبررة على الاطلاق من جانب روسيا والصين معها ضد الثورة السورية، وغذى موقف روسيا بالذات حربها في الشيشان وجروزني. وبشكل عام، يمكن القول ان هذا الاسلوب الروسي تجاه الثورة السورية لم يحقق مكاسب كبرى لموسكو، بل انها خسرت سياسياً في المواجهة الدبلوماسية العربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي المجلس الدولي لحقوق الانسان، في حين حصلت الثورة السورية على المزيد من التعاطف والدعم العربي والدولي في لقاء كل من تونس واسطنبول. ان المقياس الحقيقي لنجاح وفاعلية اي تحرك سياسي دبلوماسي يستند في الاساس على مدى تحقيقه للأهداف المحددة له، وايضاً على مدى دقة وتكامل هذه الاهداف ذاتها، ومن هذا المنظور، يمكن القول ان الموقف الروسي من الثورة السورية ضد نظام دمشق اتسم بقدر كبير من الفوضى والارتباك مرة باستخدام (الفيتو) في مجلس الأمن في اطار احترام مبدأ سيادة الدولة وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ومرة أخرى في التصويت ضد قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الانسان الدولي الصادرين بالأغلبية من الدول المحبة للسلام متجاهلة هذا الشعور الانساني الدولي، ثم تبريرها بأن مواقفها السابقة جاءت لمنع وصول السلفيين الى الحكم في دمشق. ولتحقيق هذه الاهداف اعتمدت روسيا في الدفاع عن النظام السوري على استراتيجية المراوغة وازدواج المعايير الرامية الى تمكين طاغية الشام في اكمال عملية القضاء على احرار الشام وثوارها، وعلى الرغم من أن عملية الغطرسة الروسية واسلوب الازدواجية في المعايير التي اعطت طاغية الشام الضوء الأخضر للاستمرار في القتل الرهيب وتدمير القرى والمدن وتشريد الشعب السوري الى الدول المجاورة، الا انها لم تحقق مع ذلك هدفها الذي أعلنته موسكو في مجلس الأمن الدولي باستخدامها حق (الفيتو) بعدم اصدار قرار دولي يُدين النظام السوري لان ذلك يعتبر تدخلاً في الشؤون الداخلية لدولة عضو في الاممالمتحدة. والاخطر أن الدور الروسي كان بدون هدف سياسي واضح، حيث مارست موسكو اسلوبها المراوغ تجاه الثورة السورية حيث جرت سياستها من الثورة السورية في ظل أهداف شديدة العمومية مثل استخدام (سياسة الدولة) محاربة السلفية وعدم السماح لها بالوصول الى قيادة سوريا دون ان تكون اي من الاهداف السياسية واضحة أو حتى في اطار سياسي متماسك، حيث انتصرت الاهداف الروسية على تجاربها في الشيشان وجروزني التي ادت الى قتل الشعب الشيشاني وتشريده، الا انها لم تحقق مع ذلك هدفها من اخماد الثورة السورية كما فعلت في الشيشان. ارتفع الغطاء الآن عن ان روسيا باتت لا تثق في اي من دول الشرق الأوسط، ومضت في دورها للدفاع عن النظام السوري الجائر في اطار (من ليس معي فهو ضدي) وراحت تطلب (الخضوع) بدلاً من علاقات التشاور الدولي والمصالح المشتركة، بل ان اسلوبها أصبح يجمع بين سياسة (فرق تسد) وسياسة (تحييد الخصوم) وهذا في نظري يدل دلالة قاطعة على انتحار السياسة الروسية في الشرق الأوسط. ومن ثم فإن السياسة الروسية تجاه الثورة السورية بأساليبها ومناوراتها ومراوغاتها اصبحت في نظر الكثير من المحللين حول العالم تمثل تخبطاً روسياً ادى الى انتحار الدبلوماسية الروسية في الشرق الأوسط . واذا كان كل نظام عالمي جديد ينشأ على اثر حرب عالمية، او على اثر انهيار نظام كما حدث لتفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي وتبدد سحب الحرب الباردة من سماء العلاقات بين القطبين السابقين امريكا والاتحاد السوفيتي، فان روسيا الاتحادية ترى فرض توجهاتها الجديدة بعد الانهيار الكامل للنظام الشيوعي الروسي وبالتالي اعتبرت الانتفاضة السورية لتحرير الارض والعرض من قبضة الحاكم المستبد حرباً عالمية جديدة تستلزم تأسيساً جديداً للعلاقات الدولية يبرز صورة روسيا الاتحادية بوجه جديد. يبدو ان حركة الاحداث ومسارها في الشرق الاوسط خلال العام المنصرم كشف ظهور الوجه الجديد لروسيا الاتحادية الذي يتغطى بأقنعة متعددة ليخفي رغبات موسكو وتطلعاتها في السيطرة على مجريات الاحداث في الأزمة السورية تضمن بموجبها مبايعة حلفائها وصمت الاعداء كما حدث في أزمة الشيشان، وكما يترجمه موقفها من مساندة النظام السوري الديكتاتوري. بدت هذه التوجهات الروسية وكأنها خططت جيداً ودرست بعناية وربما بهدف مزاحمة واشنطن في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط، وبمعنى آخر محاولة موسكو ان تجبر واشنطن والدول العربية عامة بأن الشرق الأوسط اصبح شأناً روسياً خاصاً، رداً على ما حدث من سيطرة المواقف الامريكية من ازمات اليمن وليبيا ومصر، فهي بذلك تهدف الى تقسيم المنطقة الى خانتين: خانة الخير وخانة الشر، وتصنيفها الى من معها، ومن ضدها في موقفها من تأييد النظام السوري دولياً. كان طبيعياً ان تصطدم هذه التوجهات الروسية بالدول العربية المؤيدة للثورة السورية والمنددة ببطش النظام السوري الجائر وغير العادل برفعها منذ البداية شعار (سياسة الدولة) في وجه الدول العربية والدول الاخرى التي تؤيدها، وبايعت ايران والصين وكوبا وفنزويلا وضمتهم الى جانبها، ثانياً، بدأت تُملي اوامرها وتفرض ما تشاء في حالة الازمة السورية مثل مقاومة السلفيين من الوصول الى الحكم في سوريا. الطين والعجين هو المثل القديم الذي يُضرب لمن يلفون اذانهم ويسدونها ? كلما ارادوا ليمنعوا انفسهم من سماع اي صوت مهماً كان عالياً او متألماً، لكنه اكثر ما ينطبق على ما تفعله روسيا هذه الايام في علاقاتها مع بعض الدول العربية وكذلك مع المجتمع الدولي بصورة عامة. إن هذا التلون المتغير للاسلوب الروسي مع الأزمة السورية يمثل تخبطاً روسياً عكسته مناقشات وزير الخارجية الروسي الذي اتى يحمل على كتفيه الغطرسة الروسية الجديدة، ورؤيتها الضبابية لُيمليها على لقاءاته مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض ثم مع وزراء الخارجية العرب بالجامعة العربية في القاهرة، في سياسة روسية تعكس المصالح المزدوجة والمطامع والاستعلاء تجاه الأزمة السورية. باختصار .. لقد استخدمت روسيا حق (الفيتو) في مجلس الأمن فووجهت باصرار عربي قوي في الجمعية العامة للأمم المتحدة وبعد ذلك في مجلس حقوق الانسان الدولي للاستغناء عن الدعم الروسي للثورة السورية شكلاً وموضوعاً، ان هذا يكفي لقد بلغت الرسالة الى قادة الكرملين ومن ثم يجب على موسكو ان تؤسس لعلاقات سليمة مع الدول العربية تقوم بالدرجة الاولى على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، فالتخبط الروسي الذي لمسته الدول العربية والذي يؤدي الى اختلال في المواقف الروسية لا بد له ان يؤدي بها الى الاضمحلال بل والانتحار بالمعنى الناتج التاريخي للكلمة)، ورفض ان الشرق الأوسط اصبح شأناً روسياً خاصاً كما يقول الروس.