"قاربت ابنته الكبرى على مشارف الثلاثين من العمر ولم تتزوج بعد في حين تقدم لأخواتها الأصغر سناً شباب على خلق ودين، لكنه يرد كل واحد منهم بأنه ينتظر زواج أختهم الكبرى أولاً" مشهد نراه في العديد من المجتمعات العربية، نتج عن ثقافات موروثة عبر الأجيال القديمة، يتحمل عواقبها وأضرارها أبناؤنا وبناتنا. عنوسة فوق العنوسة تواصلنا مع بعض الفتيات اللاتي يعانين هذه المشكلة حيث تقول سهام 26 عاماً: "أختنا الكبرى تبلغ من العمر 38 عاماً، وأبي ما زال مقتنع بأنه لا يصح أن تتزوج إحدانا قبلها، بل ومن تحاول أن تناقشه في الأمر تكون بنت قليلة الأدب والحياء لم تترب، ونحن للأسف في مجتمع فيه نسبة عنوسة عالية، فبالله عليك يا أبي هل الأفضل أن تكون بناتك الأربعة عوانس! أم واحدة فقط؟" ومن نفس المشكلة تقول فادية :"لم يعد الحديث مع أبي له قيمة بعدما بلغت أنا 32 من عمري، وأنا أنتظر حتى التي وصلت للأربعين أن تتزوج قبلي، لكنني في الحقيقة أنوي تكسير هذه القاعدة مع أختي الصغيرة، فهذا أبي لا يدرك حجم المعاناة التي نحن فيها، بل حجم معاناة أختي الكبرى التي حاولت أن تقنعه ألا يجعلها سبباً في معاناتنا، وقد اتفقت معها أن نزوج أختنا الصغرى بتوكيل ولي شرعي لها عبر المحكمة فور تقدم أول شاب صالح لها". بالحوار... تلين الأفكار أما يسرا فقد استطاعت التغلب على هذه المشكلة حيث تقول: "أبي كان يخشى على نفسية أختي الكبيرة، لكنها جلست معه بكل وعي وحكمة، وأخبرته أن الزواج بيد الله عز وجل، وطلبت منه أن يفرح قلبها بزواجي، ومع محاولات كثيرة وافق أبي وتزوجت أنا، وبعدها بستة أشهر جاء زوجي بشاب يريد الزواج من أختي الكبرى، وقد تم زواجهما وكلانا سعيد والحمد لله". وقد تواصلنا على استحياء مع إحدى الفتيات اللاتي ينتظر آباؤهن زواجهن أولاً فتقول بسمة 34 عاماً: "أبي يزيد ألمي بفكره الغريب هذا، فأنا رغم حزني لعدم زواجي حتى الآن، إلا انني أشعر بالخجل وطأطأة الرأس أمام أخواتي، فبغير قصد منهن أسمع همهماتهن عن أني أعرف أن السبب في – وقف حالهن – كما يقلن، وهذا يلقي على عاتقي بحمل ثقيل! أبي يشعر أنني سأغار وأنهار إن تزوجت إحدى أخواتي، وهذا والله لن يحدث! فأنا أحبهن وأريد لهن الخير". الشعور بالذنب والتضحية توجهنا إلى الدكتورة سميحة محمود غريب والتي تتحدث عن هذا القضية قائلة: "اعتقاد وجوب زواج البنت الكبرى قبل أختها التي تصغرها قد تلاشي إلي حد كبير في المجتمع اليوم وذلك لأسباب عديدة، منها: انتشار التعليم، وزيادة وعي الآباء بأن البنت الصغرى لها الحق في تسهيل فرصة زواجها طالما تقدم لها الشاب المناسب والكفء، كما أنه لم يعد هناك أي غضاضة في نفس البنت الكبرى إذا تزوجت أختها الصغرى قبلها، فلديها الكثير من الاهتمامات التي ربما تشغلها عن فكرة الزواج، هذا بالإضافة إلى انشغال الفتاة بالتعليم، وسيطرة فكرة إثبات الذات من خلال الوظيفة والمكانة العلمية؛ جعل هدف الزواج ليس في مقدمة أهداف الفتاة، إلى جانب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يعاني منها المجتمع، وإحجام الكثير من الشباب عن الزواج، جعل الكثير من الآباء يرحب بالشاب المناسب، وعندها لا يهم زواج الصغرى قبل الكبرى. أما في الريف والمناطق الشعبية ربما تطفو هذه القناعة لدى الآباء، فتكون سببا في رفض الخاطب المناسب والمتقدم للابنة الصغرى؛ بحجة زواج أختها الكبرى أولا، فيحدث أزمة نفسية لدى الصغرى لشعورها بالظلم، فتكره أختها التي تعتبرها الحائل دون زواجها، وتكره أهلها الذين سلبوها حقها وسعادتها، ويتولد في نفس الكبرى الحرج الشديد؛ لأنها كانت السبب في حرمان أختها نعمة الزوج والاستقرار، فتشعر بالذنب وتنسحب من المشاركات الاجتماعية، وتدخل في مرحلة من الانطواء والاكتئاب وربما تكره الحياة برمتها. أو ربما توافق علي أي متقدم دون التدقيق في مواصفاته ودينه وأخلاقه؛ لمجرد الزواج فقط، مضحية بنفسها حتى تفتح الباب لزواج أختها الصغرى، وغالبا لا توفق في زيجتها هذه؛ لأنها لم تقم علي قناعة وقبول وكفاءة تدعم استمرار الحياة الزوجية السعيدة. الدعم الإيماني وعن الآثار النفسية التي قد يسببها زواج الصغيرات على الأخت الكبرى، وكيفية تفاديها تضيف قائلة: "الأمر يتوقف علي الابنة الكبرى نفسها، فإن كانت متعلمة وتشغل وظيفة، ولديها اهتمامات أخرى كاستكمال دراسة عليا، أو تعلم مهارات جديدة تتيح لها شغل وقتها، فأعتقد أن زواج أختها الصغرى سيكون بالنسبة لها كشأن خاص يتعلق بها، بل سيسعدها ذلك. أما إذا كانت الابنة الكبرى غير متعلمة؛ وبالتالي لا تعمل، وكل اهتماماتها وانشغالاتها فقط انتظار العريس، فذلك الأمر سيولد في نفسها إحساس بأنها غير مطلوبة، وسيشعرها بعدم الثقة في نفسها، وربما يتولد في نفسها كرها لأختها الصغرى. من المهم جدا تغليب الجانب الإيماني لدي الابنة الكبرى، وتعريفها أن الزواج رزق من جملة الأرزاق التي قد كتبها الله سبحانه وتعالي في اللوح المحفوظ، ومن تمام الإيمان أن يؤمن الإنسان بذلك، وأن رزقها أتي لا محالة. وعلي الأهل توفير الدعم النفسي للابنة، ومراعاة أحاسيسها وذلك بإشعارها بأنها جميلة ولبقة وست بيت ممتازة، وعدم إحراجها بنظرات الشفقة أو الانزعاج؛ لتأخر زواجها والخوف من العنوسة، وفي هذه الحالات تلجأ الكثير من الأمهات بعرض هذه الابنة لكل من تقابل وتلح في طلب العريس، بل تلجأ بعضهن بوضع صور الابنة في الحقيبة تعطيها لكل من تقابل من جارة أو صديقة؛ لتبحث لها عن العريس فكل تلك التصرفات تكون بمثابة السكين الذي يذبح كبرياء الفتاة، ويقتل ثقتها في نفسها ويشعرها بالخزي لذنب لم ترتكبه. الدور الأساس على الابنة الكبرى ويتفق معها الدكتور رجب أبو مليح - الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية ماليزيا - : "لا شك أن هذه ظاهرة متجذرة ومتأصلة في مجتمعاتنا العربية والشرقية، وهي دعوى ظاهرها الرحمة، حيث يتعلل الآباء بأن زواج البنت الصغرى قبل الكبرى يصيب أختها الكبرى بخيبة الأمل ويجلب عليها التعاسة، حيث من المنطقي أن تتزوج الكبرى أولا ثم التي تليها، وربما يؤدي زواج الصغرى قبل الكبرى بأن تبقى الكبرى عانسا بغير زواج. وقد يكون لهذا التصرف ما يبرره إن كانت البنت الذي جاءها خاطب صغيرة جدا أو تريد إكمال دراستها أو لا ترغب هي في الزواج الآن لسبب أو لآخر. أما إن كان البنت الصغري تريد الزواج الآن، وليس لديها ما يمنعها منه، فتكون هذه الرحمة والشفقة من وجهة نظري في غير موضوعها، وهي تخالف الروح العامة للشريعة الإسلامية، حيث إن من ضوابط الشريعة الإسلامية ألا تزرو وازرة وزر أخرى، فما ذنب البنت الصغرى أن تمكث بغير زواج؟ وقد تتوق نفسها إليه، وقد يفوتها الزواج هي الأخرى، فنكون قد ساهمنا في تعقيد المسألة وزيادة عدد العوانس في المجتمع، وهذا له آثاره السلبية على الفرد والمجتمع. من قواعد الشريعة العامة ألا ضرر ولا ضرار، وبالتالي حرمت الشريعة الإسلامية كل أنواع الضرر، فتعطيل البنت الصغرى والوقوف في طريقها ضرر لا يقبله الشرع ولا يرضاه العقل السليم، وقد يحدث هذا مع أكثر من بنت في بيت واحد؛ بسبب أن الكبرى لم يقدر الله لها الزواج الآن، وقد يكون الله قد ادخر لها من الخير ما لا يعلمه إلا الله تعالى. والحل يكمن في التفاهم بين أفراد الأسرة الواحدة، وقد يكون الدور الأكبر على البنت الكبرى فهي التي تستطيع أن تقنع الأب بأنها لاتريد أن تقف في وجه سعادة أختها. إن الزواج رزق يعطيه الله لمن يشاء، ويمنعه من يشاء ولا يدرى المسلم أين يكون الخير؛ فقد يكون من الخير للبنت ألا تتزوج الآن، أو لاتتزوج مطلقا، من أن تتزوج زوجا لايراعي الله فيها، ولا يعرف حقوقها فيذيقها الويلات، وعلى المجتمع أن يتعامل مع هذه الظاهرة بشجاعة وعقلانية منضبطة بضوابط الشرع، وأما العرف فلا ينظر إليه إذا خالف الشرع.