أن يقدم المؤلف لكتابه، فهذه عادة مألوفة في كثير من المصنفات العربية، غير أنه من المؤكد أن كتابة المقدمات بواسطة الغير عادة غربية.. أو هو أسلوب غربي في التأليف، بدليل أن الذي يراجع كتب التراث عندنا والمصنفات الحديثة حتى عهد قريب لايجد فيها شيئاً من ذلك. فلا الجاحظ قدم له أحد ولا ابن قتيبة قدم له أحد ولا ابن القيم الجوزية قدم له أحد ولا الشاطبي قدم له أحد .وعندما اجتاحت حياتنا الفكرية رياح هذا التقليد وأصبحت كتابة المقدمات ظاهرة في معظم المصنفات الحديثة نحا كتاب المقدمات مناحي متعددة.. فريق آثر أن يوقم بدور كتاب الإيضاحية التي تصحب عادة القوانين، فيستعرض أبواب الكتاب وفصوله دون أن يصنف شيئا. وفي اعتقادي أن هذا النوع من كتاب المقدمات يمثلون عبئاً على الكتاب وعلى القارئ، وكلاهما .. الكتاب والقارئ ليس في حاجة إليه. وفريق اعتبر أن التقديم يفرض عليهه واجب المديح والثناء، فلا يعبا بشيء ، فيغرق في المديح ويفرط في الثناء. يكيلهما على المؤلف والكتاب بدرجة ممقوته، ربما تحرج المؤلف مرهف الحس، او العارف قدر نفسه. وقد أوقع هذا النهج كتابا كبارا في ورطات أصبحت شهيرة. فهذا شاعر كبير يقدم لديوان أحد الشداة فيقول إن في شعره حكمة المتبني وطراوة البحتري ونكهة جرير. وهذا أديب كبير يقدم لتهويمات كاتب ناشئ فيضعها في مصاف الأعمال الإبداية الجديرة بالاقتداء، وفريق نهج نهجاً مختلفاً فهو ينظر للكتاب كعمل علمي مستقل كل الاستقلال عن صاحبه.. لا اعتبار للصداقة التي تربط بين كاتب المقدمة والمؤلف ولا اعتبار للاستاذية عادة لكي يأخذ بيد ابنه التلميذ. ولا اعتبار للمركز أو المقام الذي يحظى باالاعتبار في أوساط فكرية عديدة. وهذا النقد المطلوب .. وهو الذي يدفع بالعمل قصة، شعر، نثر، مسرح، سينما، إلى التقدم والازدهار. لم تعد كتابة المقدمات طبقاً لهذا النهج الأخير مجرد شهادة روتنية بحسن السيرة والسلوك، تصدر عن غير بصيرة كتلك الشهادات التي يحصل عليها إنسان من الجهة التي يعمل به لمجرد انه يود الحصول عليها ويريد تقديمها لجهة ما. استعرضت هذه الاتجاهات المختلفة في التقديم، وهي لا تمثل كل الاتجاهات بالطبع في اللحظة التي عرض علي فيها صديقي المؤلف كتابة التقديم. والقارئ يعلم أن محتوياات هذا الكتاب سبق نشرها في الصحافة. وكنت اتابعها حلقةة حلقة .. ولم أخف اعجابي بها في كل مناسبة، فنحن في حاجة دائماً إلى أن نقرأ عن الماضي ولا يتعارض ذلك مع التطلع للمستقبل، فالذي لاماضي له لامستقبل له. ونحن في حاجة إلى أن نذكر على الدوام بقدواتنا من الرجال في كافة المجالات وأن تكثر من الحديث عنهم والإشادة بهم خاصة أمام الأجيال النابتة، لنغرس في حياتهم التقدير بعد ان اصبحنا لانجد لهذه الكلمة معنى حتى في قواميس اللغة. نحن في حاجة لأن نعرف الجيل الجديد بكل شيء عن تاريخ القديم والحديث.. كي لا يتغربوا أي لا يصبحو غرباء في أوطانهم . وهذا العمل الذي بين ايدينا اليوم فيه اشياء كثيرة من هذا الذي نريد أن نحفظه في السجلات قبل ان ينسى.. فيه اشياء كثيرة من هذا الذي نريد ان تقرأه الأجيال الحاضرة والقادمة.. صورة جميلة من تاريخ مكةالمكرمة وماضي الحياة الاجتماعية فيها. والمؤلف يظلم نفسه حين يحصر كل هذا الحشد من الذكريات .. الحياة والناس والمجتمع.. في حي الشامية، فالكتاب يتجاوز ذكريات المؤلف في ذلك الحي. وحين تسلمت المجموعة كاملة من المؤلف واستعدت قراءتها اخذ عقلي يخاطب عاطفتي وأخذت عاطفتي تخاطب عقلي.. في أي اتجاه سوف أسير؟ وهناك أسباب كثية وترسانة من المبررات تجعلني أقف إلى جانب صاحب هذا العمل من غير تفكر أو تفكير. فأنا أولا، تربطني صداقة وطيدة بمؤلف الكتاب. وإن قلت يربطني به حبا. وأنا ثانياً، من المعجبين بثقافته واستاذيته، وأنا ثالثا، من المحتفين على الدوام بأسلوبه ونهجه الفكري وأنا رابعاً كنت محل تكريم المؤلف حين اختارني من بين كوكبة من الكتاب لتقديم كتابه، وأنا خامساً من ابناء مكةالمكرمة ، وهوى المؤلف - وهو من أبناء المدينةالمنورة - مكياً ويظهر ذلك بوضوح في علاقاته بأهل مكة واجتماعاته الدائمة برجالها واهتماماته المستمرة بحالها وأحوالها. ألا يعمل هذا الهوى والأسباب التي ذكرنا في نفسي شيئاً ما، يعطيني مبرراً للمجاملة.. يعطيني مبرراً لكيل الثناء! إني لو فعلت غير ذلك لجلبت على نفسي متاعب من ابناء مكةالمكرمة أنفسهم الذين يقدرون للرجل حبه لمدينتهم وتقديره لرجالها وجهوده في إعداد هذا الجانب لواقع الحياة الاجتماعية لمدينتهم، لقد عذرت كاتبي المقدمات، حين يجنحون الى المجالات والإفراط في الثناء لكن لو اخترت هذا الطريق لوجدت غداً من يقول.. لقد ناقض كاتب المقدمة كلامه وانجرف إلى مدرسة، عبر عن مقته لها. ولو اخترت طريق النقد لوجدت غداً من يقول تنكر كاتب المقدمة لأبسط المبادئ التي تحكم علاقات الناس في مجتمع صغير كمجتمعنا يعرف الناس جميعهم بعضهم بعضاً في مجتمع يقوم على الاعتبارات الشخصية والمجاملة.. وسوف أستجيب لهذا الخطاب ولكن من خلال هذه المقدمة أكرر عميق أسفي وحزني على وفاة النقد الذي بوفاته تأثرت الحركة الفكرية عندنا كثيراً. ودعك من نقد ممجوج تقرؤه اليوم وتستهجن كاتبه في حينه ودعك من نقد يدعيه أحد اليوم وهو لا يعرف أبسط قواعد النقد. ومايسمى بالنقد الذي نقرؤه في صحافتنا هو كما يقول أحد مثقفينا لامعتبرين هرطقة بواعثها شخصية، تعكس فاقة ثقافية وضحالة فكرية.