عندما وفد الشاعر علي بن الجهم من البادية على المتوكل وأنشده: أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب إبتسم الخليفةُ ولم يُعنفه وأمر لَهُ بدارٍ على نهردجلة في مدينة الرصافة،وبعدعام اوأقل،وفدَ الشاعرُعلى الخليفة،ولكن هذه المرة أنشدَ قصيدةً مطلعها : عيون المها بين الرصافةوالجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري نَلحظُ في البيت الأول أن علياً مدحَ الخليفة بالأدوات اللفظية التي مارسها بيئياً وأحاطت به في معيشته،وعندما تفاعل مع البيئة المتمدنة الرقيقة،تفجّرجمالاًورقةوعذوبة،تجلّت في البيت الثاني،فلا غرابة في ذلك،وهذا الأمر طبيعي،ولكن ماليس طبيعياً وبالقياس على الشعر الشعبي في هذا العصر، نجد الشاعر المرفّه في المدن،والراتع في ملذات الحياة الرغيدة ، يترك(عيون المها)ويختار (التيس) لقراع الخطوب ، ويتقمّص دور (ابن الصحراء)والتي لم ينتمي إليها إلا في رحلة ( مقناص )او في نزهةٍ لا تتجاوز نصف نهارٍ او ليلة،يجلب معه فيها جميع مقوّمات الحياة الحضارية حتى في دورة المياه (اعزكم الله)، فالشعراءالذين كانت طفولتهم حافلة ب(السيريلاك) لا يليق بهم الكتابة بهذا النمط الموغل في (البداوة)،ولا ينبغي لهم ذلك،فعلى سبيل المثال لو قرأت لشاعر كتب عن الحروب وعن خوض غمارها وجسّد بطولات لذاته،ونحن نعلم انه لم يشارك في حربٍ واحدة،فأنّا لن نتقبّل ذلك منه!؟ . مادعاني للكتابة عن ذلك هو اننا نبحث دائماً عن العفوية فهي أجمل من التصنّع ، ونبحث عن اصدق المشاعر في اصدق الشعر،والتي بدأت تمضحلّ تدريجياً،فليس هناك أجمل ممن نشأ على الشواطيء وكتب عن البحر ، ومن ثمّ عاش في الجبل وكتب عن عناق الغيمة وعن مغازلة الديمة لكفّه،فليتحلّى بالعفوية في شعره من يكتب،حتماً سيكون الشاعر أجمل وتكون القصيدة أجمل،يقول الشاعر بدر بن عبدالمحسن: على وجهي الاصفر .. خريفٍ طال .. وسلال من رذاذ وملح .. راجع من الايام ، من الاحلام .. ومن الف سناره ، مغروسة بقلبي .. لقيت لي بشارة، ما اغلى عطا ربي .. أثر العمر ساره، وموج البحر ساره .. وكل المدى ساره ..