قال معالي الشيخ الدكتور قيس بن محمد آل مبارك عضو هيئة كبار العلماء إن احتجاج الإمام مالك بعمل أهل المدينة وتقديمه على الأحاديث في بعض المسائل جاء بناءً على اعتباره أن هذا العمل يعتبر من قبيل الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويصعب تقديم الحديث عليه خاصة فيما شاع بين الناس في عصره مما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيما أكد الشيخ عبدالله بن بيّة الشنقيطي أن أصل سدّ الذرائع والمصالح المرسلة ليست مما يختص بمذهب الإمام مالك بل توجد عند جميع الأئمة الأربعة لكن على تفاوت في الاستدلال بها، معتبراً أن المالكية انفردوا بالأخذ بالعمل القُطري في تجديد مئات المسائل في المذهب بناءً على الواقع المتغيّر. جاء ذلك في ندوة نظمتها الجامعة الإسلامية ضمن فعاليات المدينة عاصمة الثقافة الإسلامية برعاية معالي مدير الجامعة الأستاذ الدكتور محمد بن علي العقلا، بعنوان: (الإمام مالك وأثره في الدراسات الفقهية)، شارك فيها كل من معالي الشيخ الدكتور قيس بن محمد آل مبارك عضو هيئة كبار العلماء ومعالي الشيخ الدكتور عبدالله بن بيّة، وقدّمها الدكتور عبدالسلام السحيمي. وقال الشيخ قيس آل مبارك في حديثه في الندوة: يجب ألا يكون الحديث عن الإمام مالك مقتصراً عليه باعتباره إماماً من أئمة المسملين فحسب بل باعتباره أيضاً يمثل مدرسة فقهية من أربعة مدارس بها قوام الفقه في الشريعة الإسلامية لأن فقه الكتاب والسنة هو فقه المدارس الأربعة"، ثم عرّج على سيرة الإمام مالك الذي ولد في المدينة عام 93 وتوفي فيها سنة 179 ه ودرس على أستاذه ربيعة الرأي أخذ عنه أصول علم القياس فلم يكن القياس محصوراً على الحنابلة كما أخذ حكم المصلحة والاستحسان ومقاصد الشريعة وسد الذرائع، كما أخذ عن أستاذه ابن هرمز العقيدة والرد على الأهواء والخشوع والتواضع حيث ورث عنه (لا أدري..لا أدري) والأدب في الرد على أصحاب الأهواء، كما تلقى عن ابن شهاب الزهري الأثر. وتحدث آل مبارك عن صفات الإمام مالك بأنه كان يعتني بملبسه ومأكله ومشربه وكان يلبس من الملابس الخراسانية والمصرية وغيرها ويشتري منها الغالي والنفيس، وكان في مجلسه هيبة ووقار خاصة إذا تعلق الحديث عن الشريعة وكان لا يحب الجدل والمِراء وخاصة لطلاب العلم حيث يعتبر أن الجدال في الدين يذهب بنور العلم كما سُئل عن السنة أيُجادَل عنها فقال: لا وإنما يُخبر عنها فإن قُبلت وإلا سَكتَ.ثم عرض إلى بعض آراء الإمام وفقهه، مُمثِّلاً بخيار المجلس الذي ورد فيه حديث: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا" لما سُئل عنه قال: (وليس لهذا عندنا معروف ولا أمر معمول به فيه)، بمعنى أن وقت التفرق إذا وُكل إلى تفرق البائع والمشتري ولم يُحدّ له زمن فإن هذا باطل حتى ولو اشترط أن يكون خيار الشرط بلا زمن لبطل هذا الشرط عند جميع الفقهاء الذين قالوا بخيار المجلس. وقال إن من آرائه رحمه الله في الحديث الشهير: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً" حيث ردّ الإمام مالك على من فهم أن المقصود بهذا الحديث أن الكلب نجس، لأنه رأى أنه هذا الحديث يتعارض مع نص قول الله تعالى: (فكُلوا مما أمسكنَ عليكم)، فقال يُؤكَل صيده فكيف يُكرَه لُعابه؟ خاصةً أن الحديث يعتريه ما يفيد أن المقصود تعبديّ لأمره بغسل الإناء سبعاً، والنجاسة لا ترتبط بعدد من الغسلات بل العبرة بزوالها، وكذلك أنه قرن الأمر بالتراب، وهناك من النجاسات ما هو أشد ولا يلزم فيه التراب. ثم عرج آل مبارك على بعض مناظرات الإمام مالك كمسألة الترجيع فقد سأله الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة فقال: تؤذّنون بالترجيع وليس عندكم عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه حديث، فالتفت مالك إليه وقال: يا سبحان الله ما رأيت أمراً أعجب من هذا، يُنادى على رؤوس الأشهاد في كل يوم خمس مرات، يتوارثه الأبناء عن الآباء من لدُن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا أيُحتاج فيه إلى فلان عن فلان؟ هذا أصح عندنا من الحديث، بمعنى أن عمل أهل المدينة إذا كان طريقه النقل ومما يُذاع ويشيع بين الناس يصعب تقديم الحديث عليه. وكذلك استشكل أبو يوسف قدر الصاع الذي قدّره الإمام مالك وأنكر عليه، فطلب الإمام مالك من أبي يوسف أن يأتيه من الغد ثم طلب من طلابه أن يأتي كل منهم في الغد بما عنده من صاع، فكل جاء بصاع من بيته فسألهم الإمام مالك من أين هذا الصاع؟ قال كل منهم ورثته عن أبي عن جدّي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء بعضهم من تابعي التابعين، فقال مالك لأبي يوسف: هذه هي حُجّتي. ثم تحدث الدكتور عبدالله بن بيّة الشنقيطي عن أصول مذهب الإمام مالك وخصائصها، وبيّن أن أهمّ هذه الأصول -إضافةً إلى الأصول المتفق عليها بين الأئمة الأربعة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس- أصل سدّ الذرائع وإن كان الإمام أحمد يشاركه في هذا الأصل مشاركة واسعة، وهذا الأصل ادعى بعضهم اختصاص مالك به كما ادعى آخرون اختصاصه بالمصالح المرسلة مع عدم التسليم بهذه الدعوى، فنجد الذرائع كثيراً في مذهب الإمام أحمد وكلهم يأخذ بالذرائع لأن منها ما هو مجمَع عليها مثل التي جاء النصّ عليها في الكتاب والسنة، أما المصالح المرسلة فإن كل الأئمة يصدر حكماً دون ذكر مناسبة معينة وهذا هو المصلحة،وأضاف ابن بيّة أن من أصول مالك أيضاً عمل أهل المدينة الذي يعتبره حُجة ويقدمه على حديث الآحاد كما يقول المالكية، باعتبار ما قاله شيخه ربيعة: "ألفٌ عن ألفٍ خير من واحد عن واحد"، حيث اعتبر عمل أهل المدينة من باب التواتر خاصة في الأمور التي تعمّ فيها البلوى كمسألة الصاع وكالأوقاف، حيث إن أبا حنيفة مثلاً كان يُنكر الوقف مستدلاً بقوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة) وقد رجع أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة عن ذلك وقال: رجعتُ ولو رأى هذا شيخي لرجع كما رجعتُ، لمّا أراه مالك الأوقاف والصاع. وقال ابن بيّة إن حجية عمل أهل المدينة عند المالكية مجال واسع للبحث، وقد قسّمه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أربع درجات، وكان مالك يعتبره من باب السنة الأثرية، فقد روي عنه أنه قال هذا شيء ورثناه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك أجاز مالك بعض القضايا التي لم يُجزها بعض الأئمة لعدم رؤيتهم لعمل أهل المدينة، مشيراً إلى أنّ مالكاً كان دقيقاً في قضية حجية عمل أهل المدينة وكان يذكر الأحاديث التي تركها بسبب عمل أهل المدينة ليُثبت أنه يعرفها ولم يتركها جهلاً بها، كما أنّ أصحابه قد يُدخلون ما ليس من عمل أهل المدينة فيه ظنًّا منهم أنه كذلك، كما فعلوا في مسألة خيار المجلس. وأوضح ابن بيّة أن من أصول مذهب مالك أمر دقيق وتوفيقي وهو ما يسمى بمراعاة الخلاف، وهو ليس معروفاً لغير مالك، وقد يوجد عند بعض الأئمة حين يقولون: يترك هذا مراعاة للاختلاف، وليس هو المقصود عند مالك بل هو نوع من الاحتياط والورَع، لكن مراعاة الخلاف عند مالك هي إعمال لازم دليل ذلك المذهب، والعمل به في مذهب مالك، بمعنى أن البيع الفاسد المختلف فيه مثلاً إذا تعلّق به حق الغير أو فات بنوع من المفيتات يُمضيه مالك بعد أن كان يُبطله، وقد عاب بعض العلماء حتى من أهل المذهب هذا الأصل، لكن ردّ عليهم آخرون بأنه نوع من الاستصلاح لأن البيع إذا فات من الصعب أن يرجع والنكاح الفاسد مثلاً ليس مجمعاً على فساده. وأكد ابن بيّة أن مراعاة الخلاف فنّ من المرونة والتسامح في مذهب مالك وهذا كله إعمال للمصلحة التي شهدت لها المقاصد ولم يشهد لها أصل معيَّن، مضيفاً أن مالكاً توسّع في المصالح المرسلة والاستحسان عنده من المصالح، حيث يُعرّف الاستحسان عنده بأنه استثناء من قاعدة بناءً على عُرْف أو مصلحة. وقال: إن مسألة عمل أهل المدينة عند الإمام مالك سحب ذيله على العمل القطري عند المالكية في شمال إفريقيا ولا يوجد إلا في مذهب مالك، وجدّد المالكية به مذهبهم في مئات المسائل التي خالفوا فيها مشهور المذهب أو القول الراجع فيه بناء على مصلحة اقتضت ذلك فهو تجديد للمذهب بناء على مصالح متجددة وواقعٍ يتغيّر دون الابتعاد عن أصول المذهب، فمثلاً التين في عرف أهل المدينة لم يكن من ما يُقتات ويُدّخر فلم يكن من الأصناف التي يجري فيها الرّبا، ولكن وجدوه في الأندلس مُقتاتاً ومدّخراً فأصبح ربويًّا في الأندلس. وكذلك كان الإمام مالك يعمل بالقياس ويتوسع فيه فيعمل مثلاً بقياس العكس، وقياس الشبه في حدود معينة كما يعمل بالاستصحاب ودليل "شرع من قبلنا" ويتوسع في الاستحسان في حدود الدليل، ويأخذ بقول الصحابي كثيراً بل يكاد يُخصص به عموم الكتاب والسنة، وكذلك له رأي ونقد في الحديث فيأخذ بالبلاغات والمرسلات، منبِّهاً إلى أن مالكاً عندما يأخذ بالمرسل لا يأخذ به على العموم، بل ما ثبت عنده هو بعد أن تلقّاه من ثقة ووثق عنده أنه صحيح، ولا يمكن أن يُنسب إليه الأخذ بالمرسل بمفهومه العام، وختم بأن مالكًا لم يكتب مذهبه بل كتب موطأه وكان يجيب على أسئلة دون قبول للجدال.