تعود الناس على ذم زمانهم وقلة الرضا عن أهل دهرهم كل يذم زمانه لأنه يبلي جديدهم ويفرق عديدهم. ومن اجل ذلك قالوا المثل القديم "كل من لاقيت يشكو دهره، والدهر هو الزمن. ولابد لنا من مخاطبة طيبة لما نعاني منه أو نسر به . فاسمح لي أيها الزمن أن أخاطبك وأقول إنني أراك في كل لحظة او يخيل اليّ أنني أراك هناك قابعاً منزوياً تطل بعينك من خلف المنسج القائم منذ الازل تنسل خيوط الكون وتنسجها في دأب لا يمل ولا يغتر ونظام لا يتقدم ولا يتأخر. أخاطبك وأنت هناك بعيد في كل ذرة سابحة في الفضاء وفي كل خطوة نابضة في الفكر أو كامنة في الضمير. وأنت هناك في البرعم النامي والجرح المندمل وفي الأمنية السائحة والذكرى المتوارية وفي الأمس والغد وفي الليل والنهار وفي الارض والسماء وفي كل مكان. ولكن أحداً أيها الزمن الساحر لا يُحس أنك هناك أنا أعرف أيها الزمن إنك تضمد الجرح في اللحظة التي فيها تنقره وأنت هناك في أعماقه تقتل الانسجة وتنشئ الخلايا. وترتفع بفوره شيئاً فشيئاً. وإذا الطعنة الغائرة قشرة عالقة.. ربما خُيل الى الرائي ان وراءها ثغرة. وإذا القشرة نفسها تسقط بعد لحظات. وكأن لم يكن جرح ولا ثغرة ولا قشرة. وكذلك تصنع بالجروح الغائرة في حنايا القلب وشعاب الضمير أيها الزمن القادر كامن وراء البرعم المستكن في البذرة الساكنة تدفعه في رفق وتمده في هدوء ثم تنبثق به الى الفضاء نبتة ناحلة كابتسامة الوليد ثم إذا فروعه باسقة ذات اوراق وأزهار وأثمار.. ثم إذا هي خشبة اللحاء يابسة اللباس. ثم إذا هي وقود النار. ثم اذا هي شعاع ذاهب وهباب راسب. وانت هناك من خلفها دائب في الإبلاء والإنشاء.. وكذلك تصنع بالأمل البازغ والحب الوليد لا أدري.. ماذا أذكر من حياتي.. التي مضت فيك. وانت لا تضيع لحظة واحدة.. وما اللحظات لديك.. أعتقد أنك تسخر منها ومنها.. فنحن نقسم الوقت والعمر لحظات.. ونعرف حدودها فنقول. من هنا تنتهي الساعة الغابرة.. وتبدأ الساعة الحاضرة ونقول ان الوقت لمخيط طويل يلفه لولب الزمن فيمر بنا أو غربة بلا توقف ولا فواصل ولا حدود. ما اللحظات.. ما الثواني ما الدقائق وما الساعات.. ما الايام ما الاسابيع.. ما الشهور.. ما السنون.. ما القرون.. ما أولها وما آخرها.. ما من أول لها ولا آخر إلا في أوهامنا نحن المساكين أبناء ؟. أيها الزمن إنك لتحتفظ دائماً بسر للحظة الحاضرة فلا تدع عيناً ترقبها.. ولا حساً يدركها.. ولا فكراً يفهمها. إنها لك وحدك تنسل خيوطها وتنسج سواها. أيتها الأيام: إنك لتضمدي الجرح، وتفتحي البرعم، ولكنك تبلي الكيان وتذوي الحياة ،إنك لتمسحي على الألم وتذوي الوجه الرعيب ولكنك تطوي اللذة وتحجبي الوجه الحبيب. إنك لتمنحينا الجديد وتهبينا الطريق ولكنك تسلبينا القديم وتحرمينا التليد. من ذا الذي يستطيع أن يقول في لحظة ما.. أنا أنا.. أنا الذي كنت منذ لحظة. أن كل شيء قد تغير.. منذ اللحظة الفائتة. فليس هو من كان هناك.. انك أيها الزمن في هذه اللحظة الخاطفة نسلت خيوطاً ونسجت خيوطاً. أين مولد الأرض بجانب منابع الزمن.. أين أول الفجر..؟ وأين أول حي على هذه الكرة السابحة في الفضاء.. أين إنسان الغاب.. في الكهوف.. أين النسائم والنفحات.. أين الوسوسة والخرير.. أين الرقرقة والصدحات أين البسمات التي زقت على الشفاه.. أين العبسات التي غضت الجباه.. أين الهواجس والأفكار أين الرغائب والأوطار.. أين الحب والبغض أين الهيام والسلوان أين كلمة أين..؟ هذه التي لفظتها اللحظة، بل أين المقطع الأخير من كلمة أين.. لقد نسلت خيوطها ونسجت سواها وها أنت ذا لا تزال تنسل وتنسج في كل شيء ولن يكون شيء منها كما كان.. مرة أخرى.. أيها الزمن أيها الساخر القاهر. ربما تكون مداعباً قاسياً , إنني أخشاك في الحاضر لأننا في أيام تراجعت فيها القيم وأصبح فيها مال وأحلام.