اختلف المفكرون والمراقبون حول تعريف ما حدث ويحدث في أنحاء الوطن العربي، فالبعض يرى أن المواجهات بين الجماهير ورموز الدولة الأمنية- التي انتهى بعضها برحيل النظام، ولا يزال بعضها مستمرا- لا تخرج عن كونها حركات احتجاجية واسعة النطاق، ولا ترقى لأن تكون ثورة. ويشير البعض الآخر إلى التجربتين التونسية والمصرية على أنهما ثورتان ناجحتان، وأن البقية ستأتي في كثير من الدول العربية التي لا تزال شعوبها تعاني قدرة النظم السياسية على مقاومة الضغط الشعبي المطالب بالتغيير. وهناك معسكر ثالث يرى فيما حدث في مصر وتونس خاصة محاولات ثورية قابلة للنجاح، وإن كان يتحفظ كثيرا على بطء التغير والتحول في السياسات والمؤسسات، ناهيك عن التغير في القيم الحاكمة للمجتمع. ما يجمع بين هذه المعسكرات الثلاثة هو تعريف للثورات استقر عبر سنوات طويلة من الأدبيات الغربية التي ترى أن الثورات تتعلق بالتغيير الراديكالي لكل من القيم والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى التغير في النخبة السياسية والاقتصادية. بعبارة أخرى، لا يمكن الحديث عن ثورة دون حدوث حالة من التغيير الكامل في المشهد السياسي والاقتصادي الحاكم بما يشكل حالة من الانقطاع عن الماضي. ارتبط التعريف الكلاسيكي للثورات كذلك بالحديث عن تنظيم سياسي أو عسكري يقود عملية التغيير المجتمعية، والمواجهة مع النظام السياسي القديم، ويوفر قاعدة لتجنيد النخبة السياسية الجديدة.وفي هذا الإطار، تظهر أهمية عمليات التطهير وإجراءات محاسبة الفاسدين والمفسدين في النظام السابق، والتي اتخذت أشكالا عنيفة في معظم الثورات الكبرى في تاريخ الإنسانية. كما أن الخلاصة لدى بعض هذه الأدبيات ترى عدم جدوى الثورات بناء على حساب للمكاسب والمخاسر، فما يرتبط بالثورة من خسائر اقتصادية وحالات من الفوضى الأمنية يجعل من غير المفيد دعم منظور الثورات مقابل ما يبدو من عقلانية مشاريع التحول الديمقراطي التدريجية. في ضوء كل ذلك، يمكن فهم مكمن اعتراض البعض على وصف ما حدث في مصر وتونس بأنه ثورة كاملة، فلا يزال شكل النظام السياسي مستقرا (الجمهورية) دون أن يبدو أن هناك أية نية لتغييره، ولا يزال كثير من رجال النظام القديم وبعض رموزه يلعبون دورا في المشهد السياسي الجديد. كما أنه لا يبدو في الأفق نية لإعادة رسم الخريطة الاجتماعية، عبر إعادة توزيع للثروات من خلال إجراءات تأميمية، أو مصادرة لأملاك أو ثروات بعض من رجال الأعمال. وتتسم عمليات التعقب القانوني والمحاسبة بدرجات عالية من البطء، بما يوحي بعدم ثوريتها. وأخيرا، فقد غاب عنصر التنظيم السياسي الذي يقود حركة الجماهير، أثناء اللحظة الثورية، ويطرح نفسه لقيادة النظام الجديد. لقد تولي مهمة الدعوة الأساسية لتظاهرات 25 يناير صفحة "كلنا خالد سعيد"، التي لم يكن يعرف منشئها ومديرها، كما أن الائتلافات العديدة التي تكونت عبر أيام الاعتصام وما بعده لا يبدو أنها تهتم بالسلطة والحكم في الوقت الحاضر. وبملاحظة ما يحدث حولنا في الوطن العربي، خاصة في اليمن وليبيا وسوريا، يبدو أن الوضع هناك يشبه حربا أهلية صريحة بين قوى عديدة في المجتمع، استطاعت استقطاب بعض من فرق الجيش أو القبائل الموجودة في الدولة لصالح مواجهتها ضد النظام السياسي الذي يستخدم أقصي درجات العنف والقمع. يبعد كل ذلك الموقف عن وصف الثورة، ويقر به من مفاهيم العنف المجتمعي والعنف الحكومي، بما يهدد بسقوط الدولة ككل أو تفككها، وليس فقط بتغيير النظام السياسي.الواقع أن التاريخ المعاصر لحركات التغيير الاجتماعي والسياسي، بداية من الثورة البرتغالية في أوكرانيا، ومرورا بلحظات التغيير السياسي في أمريكا اللاتينية، وانتهاء بما يحدث في الوطن العربي، يتطلب منا العديد من المراجعات لتعريف الأسباب والنتائج والآليات والقوي أو بعبارة أخري للظاهرة الثورية ككل.فإذا بدأنا بالأسباب، فقد ارتبطت الثورات تاريخيا بمجموعة من الأسباب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وغلب علي بعضها المطالب السياسية المرتبطة بالتطور الديمقراطي للنظام (كالثورة الإنجليزية)، وغلب علي تجارب أخري الأسباب الاقتصادية (كالثورة الفرنسية، والثورة البلشفية)، وارتبط بعضها بجهود التحرر من الاستعمار والنفوذ الأجنبي،وبمقاومة المشروع التغريبي . أما في القرن الحادي والعشرين، فبالرغم من الفقر، وانخفاض الدخل، وسوء الأداء الاقتصادي، وما يرتبط به من فساد في الإدارة، وسوء توزيع العوائد في الدول التي شهدت حالة ثورية، فتبدو الأسباب السياسية هي الأكثر قدرة علي الدفع في اتجاه الثورة، مع بقاء العوامل الاقتصادية بمثابة العامل المحفز للملايين علي الانضمام للفعل الثوري، بما يؤدي في النهاية إلي سقوط النظام السياسي. هل نحن بحاجة لإعادة تعريف الثورة؟ نعم، فنحن نحتاج لتعريف يرى في الثورة عملية تحول مجتمعي وسياسي واقتصادي، ويرى في نخبتها الجديدة غير المركزية وغير الأيديولوجية وغير المؤسسة فرصا أكبر في مشاركة الجماهير في اختيار نظامها الجديد.