أخيرا، هربا من المسلسلات الرمضانية السمجة المملة، انتهى بي المطاف لأن أرسو على قناة طبخ دائمة، تقدم بالعربية الطبخة تلو الطبخة، وكبار الطباخين والطباخات من كل بلاد العالم. إنها رحلة مستمرة في عالم من الخضروات واللحوم والأسماك والدواجن والمعجنات والصلصات، ملونة زاهية مصحوبة بمقدمات جميلة وأسماء برامج ومدارس طبخ متميزة. كل المعروضات حقيقية، الطباخين والطباخات يغسلون الأشياء أو أيديهم، يقطعون المحتويات حسب الوصفة، يعجنون ويلمسون ويتذوقون ما يطبخون ويتحدثون عن الروائح بشكل محبب ينقلون فيه الاحساس للمتفرج بالرائحة الحقيقية حتى يسيل اللعاب وتفرز المعدة مواد هاضمة دون أن يكون فيها ما تهضمه. فهو رمضان، وتسلية الفرجة على الطبخ واستكمال الوجبات يمنح نوعا من الشبع الزائف حتى يحل موعد الفطار. المهم ليست هناك اخبار محزنة، ولا حوادث قتل أو مؤامرات أو شيء ينقبض منه الصدر وتزيد فوق هموم هذه الأيام في اليمن هموم أخرى. ولا في الأحلام: قناة الطبخات هذه مذهلة بالنسبة لي في طريقة تقديمها وتسمياتها لما تفعل أكثر مما تذهلني بما تفعل. فشعارها أولا الحياة حلوة والدنيا بخير. وهو شعار جميل عكس كل المؤشرات التي تعلنها وسائل الإعلام الأخرى وخاصة الخبرية منها. وبرامجها لها عناوين مثل "ولا في الأحلام"، وهي تقدم فيه الحلويات بأجمل منظر، وأحلى عرض. وبرامجها أيضا تستخدم وسائل تسلية لحديث ثنائي بين طباخ ومترجمة، أو طباخ ومرشدة تغذية أو طباخ من جنسية وآخر أو أخرى من جنسية مغايرة لزوم الاستدعاء الى المحلي وخضرمته مع وجود الآخر. وبرامج تشبه برامج احاديث القضايا التي سادت في التلفزيونات بدء من القنوات الغربية ونقلا كالعادة الغالبة الى قنواتنا، كبرامج النساء النواعم أو الخشنات، في هذه القناة عددهن ثابت، وحواراتهن المتشعبة تكشف قليلا من الذاتي بهدف مناقشة الموضوعي ولمنح الآلفة مع الحوار ونقل الحميمية التي بين المتحاورات الى الجمهور، مع تفاصيل مستمرة للوصفة التي يدور حولها الغذاء والاستدعاء الثقافي والتاريخي. يعيدني التأمل في شؤون مثل هذه البرامج الى عدد من الروايات التي تكتب وتستدعي احداث الماضي بما في ذلك بعض تفاصيل الوجبات التي تركت اثرا ما في ذاكرة أو سلوك الراوي. وكذلك الى التفكير في الطعام ليس فقط كفن مبدع أو غذاء هام أو مصدر طاقة ضروري بل ايضا كتعبير مكاني وزماني عن تطور حضاري وتفاعل بشري، سادت فيه النساء بشكل عام في الاطار الخاص، وابدع واستثمر وحقق عوائد مالية كبيرة منه الرجال. تم استثمار العمل الابداعي للنساء من جهد منزلي محدود في عدد المستفيدين منه لليد العاملة الواحدة من أفراد الأسرة، الى سلسلة منتجات مصنعة ومعلبة تهدف الى حفظ الطعام من ناحية وإتاحته الى سوق استهلاكية كبيرة والى تحويله الآن الى منتج إعلامي شديد الانتشار. [email protected]