** كان صوته مدوياً في ذلك "الخان" الحجري البناء وهو ينادي على ما أمامه من لحوم "الحري دوا" كان "خان الجزارين" في المدينةالمنورة أحد الأسواق المتخصصة فبجانبه كان هناك سوق التمارة وسوق الطباخين وسوق القماشة حتى البرسيم كان له سوق وسوق العياشة "والفلتية" التي لا أعرف ماذا تعني بالضبط. أقول كانت أسواق المدينة تمتاز بخصوصيتها الملحوظة فلا تجد بائع السكر والشاي بجانب مطعم الأرز البخاري أو بجانب مغسلة للملابس، كانت الأسواق معروفة قبل أن يحدث هذا الطوفان من "السوبر ماركات" حيث اختلط الحابل بالنابل، فتجد تلك اللحوم المعروضة أمامك داخل ثلاجات مبردة فتأتيك "اللحمة" مقددة بالثلج مصابة بالسواد في أطرافها للمدة الطويلة التي مكثتها داخل هذا الصندوق البارد، كنت تقف أمام عم "ياسين" وهو بثوبه الأنيق وعمامته الملفوفة حول رأسه بعناية: وهو يسألك ها اليوم ايه خضرتكم؟ عندما تقول له بامية يعطيك بما يسمى "القص" من الخروف وهكذا تأخذ اللحم والخضرة طازجة، لا "مثلجة". وعلى الطرف الآخر من "الخان" يأتيك صوت آخر في تناغم عجيب "الفقر دوا" لأن ما يقدمه من لحوم وهو "الجزور" أو "الجمل" الذي لا يشتريه إلا الفقراء لثمنه الأقل من ثمن الخروف الحري، فالفقير حريص على وضع قرشه في المكان المناسب لا يرميه بأي شكل كان. تذكرت هذا وأنا أسير في أحد طرقات إحدى المدن العربية الفقيرة عندما لفت نظري اثنان يرصفان بعض حجارة الرصيف المكسور في عناية وحرص شديدين ورحت أقارن بين أرصفة بعض مدننا وتلك المدينة "النائمة" والتي بالكاد تجد لقمتها، فهل صحيح الفقر دوا؟.. أم هو الإحساس بقيمة التنظيم والحرص عليه؟.