التقيت به على مشارف مكة المكرَّمة قبل سنوات طوال. كنا تحدَّثنا قبل ذلك بالهاتف مرَّات ومرَّات ومع ما يخلقه الصوت أحياناً من انطباع تصوُّري إلا أنه في حالته لم يخطئ كثيراً. وبعد تبادل كلمات الترحيب والمجاملة التي وَجَدتُ فيما بعد أنَّه لا يتصنَّعها حين يستغرق فيها وإنما هي بعضٌ من طباعه، دلفت إلى سيارته ليبتدئ الرحلة إلى قرية المجاردة -ثقيف قريباً من الطائف. كانت الرحلة في مساريها موطناً لتعارفٍ لم يتبدَّل ودّه وبدايةً لمعرفة لم يكن يقدر عليها إلا ذلك الذي استقوى عليه. عرفت منه ببساطته وشفافيته أكثر مما عرف منِّي عنِّي ولعلي أحسنت بصمتي الذي لم يكن ليبوح عن كثير. كان يشير طوال الرحلة إلى هنا وهناك إلى مواقع آثارية وتراثية يعرفها عن ظهر قلب ويحبها كذلك. تعدَّدت اللقاءات والاتصالات.. وكنا وإن تباعدنا حينا نعود كندماني جذيمة يبدأ هو وينتهي. كان الحديث إما عن كتاب يبدؤه أو ينهيه أو عن بحثٍ يبذل فيه أكثر مما توقَّع من كلَّفه. وكان في مهنيَّته مُعيناً لكثير من رفاقه متفضِّلا دون تفضُّل بمعلومةٍ أو رأيٍ أو مزيدٍ من بحث. وحين التقينا في "طبب" قرب أبها قبل زمن، كان يجادل بالدليل وبالقياس حول النمط العمراني لمسجدها القديم وذلك في تواضع العالم وثقة الباحث. وكان يطغى على كل شيء شخصيته الإنسانية البديعة التي ضمَّت خصالاً من فضلٍ لا تجتمع في كثير ولعل من أجملها أنه كان أبيَّ النفس عزيزها، وكريماً كرم من لا يخشى الفقر، لا تفارق البسمة محيَّاه. أما مكةالمكرمة فكانت حُبَّه، وأنعم به من حب. وكأني به يستحضر حبَّ أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها التي نطقت بأجمل ما يقال في هوى المكان: "لولا الهجرة لسكنت مكة. إني لم أرَ السماء بمكان قط أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة، ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة". وقد ترجم حبَّه في خدمة تاريخ مكةالمكرمة وتراثها، وأشبع ذلك حرصاً وبحثاً. ولعله من حسن الختام أن يكون عن مكةالمكرمة أوسع كتبه التي بذل فيها جهداً لا يجازيه عليه إلا رب البيت العتيق. حدثني قبل رمضان وسألني إن كان وصلني أحد كتبه ووعد أن يرسل نسخة أخرى إن لم يصل. ثم تحدثنا عن كتابٍ جديد رجوناه أن يتعاون معنا في كتابته عن تاريخ عمارة المسجد الحرام ووعدته أن نبدأ بعد العيد. وجاء ما بعد العيد بأسى أستغرب كيف تم اختصاره في رسالة. انتقل الدكتور ناصر الحارثي إلى رحمة الله مُقبلاً مؤمناً كما يشهد له أحبته وهم شهداء الله في أرضه، والله وليُّه وهو يتولَّى الصالحين. لا يعرف المرء جمال وقدر كثير ممن حوله إلا بعد أن يفرِّط الدَّهر فيهم. وبعدها تبدأ دورةٌ من الأسف ما تلبث أن تتلاشى حتى فقدٍ آخر.. ولكن فقد الدكتور ناصر الحارثي، رحمه الله، سيظل متجدِّد الأسى، متجذِّر الشَّجن.. وسأظلُّ منتظراً كتابه الذي لم يصل.. وكتابنا الذي لن يصل! وتُبعثُ وحدك.. كما متَّ وحَدك ونحن.. على صفحة الحزن نقتسم الموت بعدك