ما بين دفات الكتب، وأروقة وشعاب مكة، وعلى ذكرى «شيخ المؤرخين» و«عميدة المؤرخين» في مكة في القرون الماضية، طاف وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبد العزيز خوجة بشركائه في الهوى المكي البارحة الأولى في سماء الانتماء إلى الثرى المبارك الذي منه فاح شعاع المعرفة ومن فوق جباله صدح صوت الحق والعلم والفضيلة لسود العالم بأسره. حالة من الحنين والشوق للماضي اكتساها الوزير وهو يكسر نمطية البرتوكولات الرسمية في خطابه ليقف ناثرا دررا من شعره ولآلئ من نثره، وشيئا من بيان سحره وفنه لتكسوه هيبة الوقار، وتخالطه نشوة الافتخار، ليقول معترفا: «أشعر بالهيبة وأنا في حضرة كوكبة مباركة من مؤرخي مكة وجغرافييها في ليلة التكريم والاحتفاء، فليس من هيبة يتيه بها صاحبها كهيبة العلم والعلماء». وزاد «لا أخفيكم إنني وأنا اقرأ أسماء العلماء المكرمين أيقنت أن هذه البلدة الطيبة لا تزال على قديم العهد بها محافظة على تراثها العلمي الخالد، وأحسست أن شيخ مؤرخي مكة (الأزرقي) – رحمه الله – يطل علينا وبيننا وبينه قرون وتعلو سيماه نظرة حانية مطمئنة أن هؤلاء الذين تكرمون الليلة ورثته، وكأن عمدة المؤرخين المكيين (الفاسي) يتمنى أنه معنا الليلة حتى ينظم هذه الأسماء المكرمة في (عقده الثمين)». وفي رده على سؤال «عكاظ»، قال الوزير خوجة: «التكريم جاء وإن تأخر، لكنه تكريم يرمز إلى الوفاء للأحياء والأموات، وهذه سنة حسنة سنها نادي مكة الثقافي الأدبي ويشكر عليها ونأمل استمرارها، هذه الرجالات تستحق كلمة «شكرا من الأعماق» نظير تلك العطاءات التي أشاعت سماء الإبداع». يمنة ويسرة الوزير خوجة الذي اعتلى مسرح الإدارة العامة للتربية والتعليم في مكةالمكرمة بحضور أكثر من 100 شخصية مكية شهدت تكريم ستة من أعلام مكة، قال: «اعذروني إن طوفت بكم في الآفاق يمنة ويسرة، فأنتم شركائي في الهوى المكي، إني أخاطبكم وفي خيالي تدور عشرات الأسماء من مؤرخي مكةالمكرمة – فما بالكم لو استعرضنا سائر علمائها النابغين في العلوم الأخرى؟ فثمة الفاكهي والطبريون، وآل فهد، والنويريون، ثم أصعد رويدا رويدا إلى عصرها الحديث فأجد الحضراوي، والدهلوين وعبد الله الغازين وحسين باسلامة، وأحمد السباعي، وعبد القدوس الأنصاري، ومحمد طاهر الكردي، ومحمد عمر رفيع، وشيخنا العالم الجليل الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وعشرات من المؤرخين والمؤرخات الذين تزخر بهم جامعاتنا السعودية والعربية والإسلامية من الذين أرجو أن تمتد إليهم بادرة التكريم في مستقبل الأيام». مكامن الشوق وبعد العودة إلى التاريخ، قال وزير الثقافة والإعلام: «ها هو ذا ناديكم لا يدع القلب يستقر مكانه، ويأبى إلا أن يثير فيه مكامن الشوق والذكرى نحو هذه المدينة العظيمة المقدسة (مكةالمكرمة) وأين؟ في شهر رمضان المبارك! هذا الشهر الذي صدعت فيه جبال مكة وبطاحها وشعابها بأمر ربها وتلقت فيه هذه الأرض نبأ السماء وقيل لنبي الرحمة – صلى الله عليه وسلم: (اقرأ) فامتلأ الكون هدى وتقى وخيرا، عندما تلقيت هذه الدعوة الكريمة إلى هذا المنتدى المكي الطيب تذكرت – والذكرى تشوق وتطرب – ملامح من مآثر مكةالمكرمة وفضلها على كل من انتسب إلى هذه الأمة الإسلامية العظيمة واستعدت – وأنا ابنها المكي – ألق كل شعب من شعابها، وأخذت أجول في أزقتها وشوارعها ويشدني الوجد إلى حاراتها العتيقة ويصعد بي الشوق إلى الأعالي إلى الذرى فأصوب وجهي تجاه منارات حرمها الآمن، وإذا بي أرجع القهقرى عقودا من الزمان وأرى إلى جانب البيت العتيق صورة ما أحلاها من صورة وقد كنت اختلف إلى حلقات الدرس والتعليم في تلك الأروقة المباركة ونحيط وزملائي بشيوخ لنا فيكاد القلب يضطرب في مكانه ثم لا ألبث لحظة حتى أرفع الأكف إلى الله – تبارك وتعالى – أن يرحم ذلك النفر العظيم من علماء مكةالمكرمة فكم أعطوا! وكم أنفقوا! وكم ذابت مهجهم وهم يتجهون بأفئدتهم ووجهوهم نحو البيت العتيق وكم كانوا يستشعرون جلال الموقف الذي شرفهم فيه البارئ – عز وجل – أن اختصهم بشرف التدريس إلى جوار بيته المعظم وأن ساق إليهم تلك الوجوة الطيبة من قاصدي البيت الحرام (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، لذا ينبغي لنا أن نستشعر فضل الله علينا أن جعلنا جيرة البيت وأن هيأ لنا أن ندرج في مسالك هذه البلدة الطيبة وأن نستنشق هواءها العذب وأن تختلط أصواتنا بنسائمها الشجية، وأن نسير على ترابها الذي ما مثله تراب، وأن نستظل بسمائها التي ما جاوزتها سماء وأن نظل إلى عليائها قليلا قليلا نرمق قمرها الأنور»، ونتذكر قول أمنا أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق – رضي الله عنها وعن والدها وأرضاهما – حين رأت القمر فقالت هذه الكلمات التي هي السحر الحلال «لولا الهجرة لسكنت مكة إني لم أر السماء بمكان قط أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة، ولم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة»، وأردف بالقول «إنني أكاد أستعيد تلك اللحظات الطاهرة، وهي إنني كل ما جزت في شوارع مكةالمكرمة وهبطت أوديتها أحس بتلك الكلمات النورانية، وأتملى في خاطري رحلة الشوق إلى مرابعها وأحس بمفردات الكون تردد معي كل كلمات الحب لمكة والعشق لمكة». جدارية الوفاء الدكتور محمد بن مريسي الحارثي عضو مجلس إدارة النادي الثقافي الأدبي في مكة والأديب المعروف الذي أطلق الندوة العلمية عن عطاءات المكرمين توجه للحاضرين قائلا: «هذه الليلة يرسم لكم نادي مكة الثقافي جدارية احتفالية جميلة نابعة من استحقاق هذا التكريم، هذه الجدارية بؤرتها كلمة «شهد»، وتقاطعاتها اللونية والمادية والظلالية هي كل ما تحمله هذه الكلمة «شهد» من إشعاعات تزين هذه اللوحة التي نرسمها لكم هذه الليلة، وأنتم تشهدون على حركة الحضارة المكية». سير ذاتية الندوة العلمية عن عطاءات المكرمين، بدأها الدكتور فواز الدهاس متحدثا عن السير الذاتية للمؤرخين الراحلين عاتق بن غيث البلادي، هاني بن ماجد فيروزي، والدكتور معراج بن نواب مرزا. فيما تطرق الدكتور عدنان بن محمد الشريف عميد شؤون المكتبات في جامعة أم القرى بالحديث عن حياة كل من الدكتور ناصر الحارثي، الدكتور عبد الملك بن دهيش، والدكتور محمد الحبيب الهيلة، ذارفا الدمع وهو يستعرض سيرة صديقه ورفيق دربه الدكتور ناصر الحارثي الذي غيبه الموت العام الماضي. الوزير وابن دهيش عندما صعد وزير الثقافة والإعلام منصة الحفل لتسليم المكرمين من مؤرخي وجغرافيي مكة دروعهم التذكارية، لاحظ الوزير عدم استطاعة الدكتور عبد الملك بن دهيش الصعود إلى منصة التكريم لظروفه الصحية، فحمل الوزير الدرع التذكارية المقدم لابن دهيش من نادي مكة إلى حيث كان جالسا، وقد قابل الحضور موقف الوزير بموجة من التصفيق، مبدين إعجابهم بهذه اللفتة التي كسرت البروتوكول المعتاد.