هكذا منذ أن سلم حياته للأيام تسّيره كيفما تشاء .. وهو فيها كطيف عابر لم يعرف من ألوانها سوى اللون الرمادي كدلالة على تشابه التفاصيل وإن اختلفت الفصول.. ظل سائحا بين أزمنتها حتى غدت شيخوخته أكبر من أن تغطى بستار الخوف أو الخجل إنه ذلك البوسطجي أو ساعي البريد والذي عرفه المصريّون ذات زمن بعيد ماراً بين الطرقات بدراجته العتيقة وحقيبته البُنية المحملة بالرسائل والعناوين يوم أن كانت الدروب موعداً لانتظار المتلهفين ..وسكة لأشواق المغتربينتشكلت شخصيته في قالب فريد من حيث المهام الموكلة إليه وظل في إيقاع الحياة القديمة يجسد تناغماً في العلاقة مع سكان الأحياء الشعبية ليبدو في كافة أدواره امتدادا لعائلات الحي فهو في أغلب الأحيان مطّلع على أحوالهم والتي تخبئ أسرارها مطويات الورق وحكايات الأرق لم تكن مهنة ساعي البريد حديثة العهد بل أنها متعمقة في جذور التاريخ واقتصرت أدوارها قديما على نحو التنبيه بنذير الحروب أو تبليغ الرسائل الشفوية مابين القبائل والعشائر .. المشهد يتكرر في ذاكرة رجل مسن امتهن هذه المهنة تابعته في حوار قصير عبر القناة الثقافية المصرية على هامش قراءة نقدية لواحدة من روايات الأديب يوسف إدريس يقول : عملت ساعيا للبريد مدة ثلاثين عاما إلى أن أحلت للتقاعد فيما بعد .. كنت مرفأ لوله الشغوفين تمكنت من قراءة رسائل عدة للكثير من العائلات في أحياء القاهرة .. كنت اجلس في صالة البيت ليتحلق من حولي الأهالي منصتين لما سأقوله عن أخبار أبنائهم وذويهم وهذا ماجعلني أكثر قربا منهم أتأثر من تأثرهم وأفرح من فرحهم في منظر حميمي أكسبني حبهم الدائم ...وحتى بعد أن أحلت للتقاعد أجدني من فرط الحنين سائرا في ذات الشوارع أتفحص وجوه العابرين وإن كانت دورة الأيام قد أخفت تلك الوجوه التي آلفتها ..يقول: هذه المهنة لم تعد موجودة اليوم فالثورة التقنية أراحت الناس من ويلات الانتظار والترقب فقد استعاض الناس بالجوالات كبديل للرسائل البريدية بل أن الآمر اتسع عن طريق الشبكة العنكبوتية والتي أوجدت البريد الإلكتروني ليسحق مهنتي تماماً فلا يكلف الأمر سوى ضغطة زر لتصل أطول رسالة في ثواني إلى مشارق الأرض ومغاربها. إلى تلك اللحظة كان قد استوقف من يحاوره ليأخذ تنهيدة طويلة ويردف قائلا ..غربتنا هذه الثورة ياإبني بعد أن أضاعت الآمال الصادقة التي كنا نقرأها في تعرجات الحروف ألامني هذا البوح كثيراً فخاطبته قائلاً : إن عجلة الأيام التي تدور دونما هوادة ياعم لازالت تلقي بكل معاني الحب والصدق عرض الحائط فنحن في زمن اللامبالاة واللاإحساس إنها لم تكتفي بدهس مهنتك ولكنها أيضا دهست معنى الحنان والتكافل فالناس متباعدون في هذا الزمن العجيب هم اليوم متفرقون شغلتهم الدنيا عن الوصال والألفة لتبدو نفوسهم مشحونة متنافرة يعلوها البغض والنسيان والنكران ..النكران الذي يجسد ملامحه هذا الفصل الذي أقرأه في كتاب الأيام كلما باغتني الحزن "وجت تأخذ رسا يلها ..وخصلة من جدا يلها وتديني جواباتي بقايا عمر بسماتي وقالت لي فمان الله ".. .. فمان الله [email protected]