ما إن انتهيت من قراءة «روبرتاج» في إحدى الصحف العربية عن «العرضحالجية»، كتب وبشكل باهر متميز حتى أغمضت عيني سابحا خلف ذكريات تجرني وراءها.. أستعيدها كالملهوف ببراءة كفيلم صامت دون مؤثرات صوتية.. تتطاير الصور أمام عيني.. أتذوقها ولا أبتلعها حتى أتمكن من لملمتها لكم، فالقصة تنتمي إلى زمن يبدو الآن بعيدا.. تتبعني الصور كابتسامة مترددة أتشممها بعذوبة فلها رائحة أيام كنا فيها لا نعرف ما نريد لكننا نعرف ما لا نريد.. كنا نفعل ما يعطي الزمن معنى.. نقوم بأعمال مجدية ولها عايد نكافح به ذلك الفقر الفادح والذي كان يلقي بظلاله الغليظة على جميع الأشياء.. كنا نركض في الحياة كحيوانات صغيرة في قفص تركض على دولاب صغير لا يتوقف.. حيث فرص البقاء محدودة.. تتمثل الصور أمامي مثل خيوط حريرية تطرز عناقيد العنب.. مثل قطرة نور ساطعة تلمع.. مثل حبة ملح بلورية على مسقط شعاع.. كنا لا نزال في المرحلة الإعدادية الجامعية أنا و «عبد الإله»، كنا المخلوقين الوحيدين في تلك المرحلة اللذين قررا اقتحام مهنة «العرضحالجية» بطريقة مبتكرة في ذلك الحين، وهي أن نقوم بكتابة العرائض والبرقيات والطلبات والرسائل والشكاوى للمراجعين على «الآلة الكاتبة»، كان رأس مالنا طاولة خشبية صغيرة وكرسيين وسجادة نفترشها عصر كل يوم على الرصيف الأسمنتي الطويل أمام مبنى البريد.. كانت بناية البريد تطل على الشارع العام.. كان دوامنا يبدأ ما إن تنتهي فريضة العصر نعدو بعدها على الطرقات منتشين ببريق ضوء العصاري، مثل الدجاج في سعيه المحموم للبحث عن الطعام.. كنا نتناول التميس والجبن المثلث المغلف بقصدير فضي ونرتشف الشاي بالحليب على ذلك الرصيف ثم نسحب بعدها الآلة المعدنية المتهالكة.. نستقبل ذوي الحاجات ممن لا يجيدون الكتابة والقراءة نساعدهم على التعبير.. يتحدثون ونصغي .. لنترجم بعد ذلك ما يقولونه إلى خطابات ومعاريض وبرقيات ورسائل عائلية حميمة ودامعة نختصر فيها أحيانا مسافات الحنين.. كنا مثل حاو يخرج أرنبا من طاقيته لمراضاة طفل عزيز، حيث أجسادنا النحيلة وكلماتنا المبتورة.. كان ما يشفع لنا ويجعل «الزبائن» يتهافتون علينا أجرنا البسيط مقارنة «بالعرضحالجية» المحترفين، ولكم كانت سعادتنا كبيرة أن ينتهي اليوم ولدينا ما يغطي إيجار السكن المشترك الذي أقيم فيه وعبد الإله في حي الجامعة.. ومع الأيام تخصص عبد الإله في الشكاوى والمعاريض والبرقيات وتخصصت أنا في كتابة الرسائل العائلية، وفي المساء كنا نتقاسم «الغلة» فيما بيننا مثل طفل ينتظر لعبة العيد.. وكنت وعبد الإله نتشابه في أشياء كثيرة كنا نقرأ الكتاب مرتين، مرة هو ومرة أنا وكنا يتيمين وكنا لا نستغرق في الهموم ونستمتع بالأشياء الصغيرة في حياتنا.. وكمشهد أخير في ليلة وداع رحل عبد الإله، قرر جسده التحليق للسماء فجأة صعد كما يصعد نهر باتجاه الغيم مخلفا لدي ذكرى دافئة مثل تفاحة سكرية تذوب بتمهل في ريق فم جاف وآلة طابعة سوداء، والتي لا أزال أحتفظ بها حتى الآن والتي تحولت مع الأيام إلى نصب تذكاري على وحشتي وانتهى بها الأمر أن حملتها مثل حصان خاسر إلى مخزن العمر محروسة بأهداب العيون، وليأتي هذا «الروبرتاج» ليلوي بعنق الذكرى ساحبا خلفه سبحة من المشاهد العصية من أيام نضرة أو جسورة كما يحلو لي تسميتها أحيانا، حيث في تلك الأيام لم يكن مسموحا للون الأسود خلالها أن يكون مسؤولا عن الإضاءة ولم يكن متاحا للون الرمادي أن يتصدر الواجهة.. مشاهد كان للانسجام مع النفس فيها صهيل وكان لعشق الحياة فيها نفس طويل وكان النهار فيها يتنفس إرادة ويختال مزهوا بإصرار.. هل مثل تلك الذكريات تزيد الألم.. أم تطرح الأمل.. يا له من سؤال!!. [email protected] للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 134 مسافة ثم الرسالة