- من بين عشرات المقالات والدراسات التي تناولت قضية زيادة رسوم الأراضي البيضاء في المملكة، والتي اتفقت على أنها ستحدث انفراجة في أزمة السكن التي يقف وراءها بعض تجار وملاك الأراضي، تبرز وجهة نظر أخرى مغايرة، تعتبر أن السبب في المشكلة يعود إلى ما يمكن تسميته "سوء توزيع للثروة وتركزها أكثر فأكثر بيد القلة"، في غياب مؤسسات النشاط غير الربحي واتساع ما يما يمكن وصفه ب "رقعة الانحراف" للدرجة التي تجعل من تطوير العقار والبناء عملية مكلفة ومعقدة. وجهة النظر هذه، يتبناها الدكتور سامي السويلم، نائب مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، وأحد أبرز علماء فقه الاقتصاد الإسلامي في المملكة، والذي يرى أن معالجة أزمة السكن لا تستتبع بالضرورة فرض رسوم على الأراضي بقدر ما تتطلب إطلاق مبادرات تطوعية من رجال أعمال؛ لتوفير سكن مدعوم للشباب، بالتزامن مع إصلاح البيئة التنظيمية للعقار والاستثمار وفرض مستويات عالية من الشفافية والحوكمة والإفصاح. وبعيدا عن اتفاقنا أو اختلافنا مع رؤية الدكتور السويلم، إلا أننا ننشرها، عملا بحق الجميع في عرض وجهة نظره، تاركين للقارئ وحده حق التعاطي وتقييم ما يتم تناوله من آراء. وفيما يلي النص الكامل لمقال الدكتور السويلم، الذي نشرته "الأمة، الخميس (26 مارس 2015): د. سامي السويلم يكتب : تأملات في قضية رسوم الأراضي البيضاء في السعودية عاد ملف رسوم الأراضي البيضاء إلى واجهة الأحداث المحلية، في خضم تداعيات إقليمية ودولية كبيرة. واضح أن هناك رأيين في قضية فرض الرسوم، وواضح أيضاً الاتفاق على أصل المشكلة وهي ارتفاع أسعار العقار، وصعوبة الحصول على السكن للشباب والأجيال القادمة إذا بقيت الأسعار في وضعها الحالي. مشكلة السكن تندرج ضمن مشكلة أكبر وأعمق في دول الخليج، قليلون يحبون الحديث عنها، ألا وهي سوء توزيع الثروة وتركزها أكثر فأكثر بيد القلة. هناك أسباب متعددة لهذا الخلل في التوزيع، على رأسها غياب مؤسسات النشاط غير الربحي التي تمثل خط الدفاع الأول ضد هذا الانحراف على وجه الخصوص. تراجع القيم الأخلاقية وروح التضامن والتراحم الاجتماعي وغلبة الشح والجشع، أدى إلى تراجع دور النشاط غير الربحي في مجتمع يفترض أن يكون مسلماً ويحرص على القيم الإسلامية. مؤسسات النشاط غير الربحي لا تقتصر على الزكاة، بل تمتد لتشمل التبرع والتعاون والقرض الحسن، وشتى صور التضامن والمواساة بين فئات المجتمع. غياب هذه المؤسسات له تاريخ طويل للأسف، وكلنا يعلم كيف أصبح القول بتجويز الحيل الربوية هو المستند الأول للتهرب من فريضة القرض الحسن. ويمكنك أن تستنتج كيف أسهمت بعض الأقوال الغريبة في تكريس روح الأنانية والجشع في المجتمع. من أبجديات الاقتصاد الإسلامي أن علاج الانحراف في توزيع الثروة يتم بالدرجة الأولى من خلال أعمال البر والمعروف، أي النشاط غير الربحي، كما سبق. أما في الاقتصاد الرأسمالي، فإن العلاج يتم بالدرجة الأولى من خلال الضرائب بصورها المختلفة. هذا الاختلاف يعكس الاختلاف في درجة الاعتماد على القيم الأخلاقية في المجتمع. ففي الرأسمالية، لا يمكن الاعتماد كثيراً على الجوانب الأخلاقية بسبب تآكل الأساس الإيماني لها. أما في الاقتصاد الإسلامي، فالأخلاق تؤدي دوراً فعالاً في توجيه السلوك الاقتصادي. لا زلتُ عاجزاً عن فهم السبب الذي جعل المحللين لأزمة السكن يتجنبون مناقشة أي صيغة لحل مشكلة السكن تقوم على الوازع الأخلاقي، وتعتمد على مبادرة رجال الأعمال بالتطوع لحل أحد أهم مشكلات الشباب في المجتمع. من يحاول أن يقنعنا بغياب القيم الأخلاقية لدى عامة رجال الأعمال فهو يرتكب جريمتين في الوقت نفسه: الأولى اتهام المسلمين بالباطل وسوء الظن بهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال هلك الناس فهو أهلكهم". الجريمة الثانية أنه بذلك يبرر وينظر للجشع والطمع والانحراف، عن قصد أو بدون القصد. فهذا الاتهام هو من جنس تجويز الحيل الربوية، كلاهما يفترض سوء الظن بالمسلمين. الحقيقة التي نعرفها ويعرفها كل من تعامل مع رجال الأعمال في المنطقة أن نسبة كبيرة منهم من المحبين للخير والبر ولهم أنشطة كبيرة في هذا المجال، وقد بلغت الأوقاف من رجال الأعمال عشرات المليارات من الريالات. قد كان يمكن بكل يسر وسهولة، وبدون الدخول في صراعات لا أول لها ولا آخر، إطلاق مبادرات تطوعية من رجال الأعمال بإشراف لجان شرعية وخبراء متخصصين لتوفير سكن مدعوم للشباب بأفضل المعايير الدولية. وكان هذا هو المنتظر في ظل مبادئ الاقتصاد الإسلامي التي ترتكز أساساً على قيم التراحم والتكافل والتضامن الاجتماعي. أما اللجوء لفكرة الرسوم فهي فكرة أجنبية عن روح الاقتصاد الإسلامي من ناحية، ولها آثار سلبية عديدة، كما سيأتي. مشكلة السكن نشأت في بيئة تراجعت فيها القيم بشكل ملحوظ. عندما تعلن وزارة العدل عن إلغاء صكوك عقارية بقيمة 400 مليار ريال، ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني اتساع رقعة الانحراف بشكل كبير، وما خفي كان أعظم. كثير من المستثمرين والمطورين العقاريين يشتكون بمرارة من انتشار الفساد الإداري والمالي لدرجة تجعل تطوير العقار والبناء عملية مكلفة ومعقدة وسلسلة لا تنتهي من الرشاوي والمحسوبيات. ما هي حوافز البناء والتطوير وتوفير السكن لعموم فئات المجتمع؟ صفر. ما فائدة فرض الرسوم في هذه البيئة؟ لو فُرض أن الرسوم لها كل المزايا التي يبشر بها أصحابها، لكان فرضها في هذه البيئة مثل زراعة الورد في مستنقعات آسنة. يجب معالجة المشكلة من جذورها. لا بد من إصلاح البيئة التنظيمية للعقار والاستثمار وفرض مستويات عالية من الشفافية والإفصاح والحوكمة قبل الحديث عن أي قوانين جديدة. الفساد الذي أدى إلى المشكلات الحالية سيمارس دوره بكل إتقان في حال فرض أي أنظمة جديدة، ليجعلها من ثم عاجزة عن بلوغ الأهداف المخطط لها، بل ستكون للأسف ذريعة لمزيد من الظلم وأكل المال بالباطل والفساد المالي والإداري. لا خلاف بين العلماء من حيث المبدأ على تحريم الاحتكار، وإن اختلفوا في التفاصيل. لكن تحريم الاحتكار يعني تجريمه وضرورة استئصاله وليس السماح به سواء بالرسوم أو بدونها. الرسوم للأسف تعني السماح للمحتكر بالاستمرار في الاحتكار مادام يدفع الرسوم. ولكن هذا نقيض مقصود الشريعة الإسلامية في محاربة الاحتكار. هذا الأسلوب للأسف سائد في الاقتصاد الرأسمالي، حيث يسمح للشخص الذي يضر بالمجتمع (من خلال ما يسمى بالوفورات السلبية negative externalities) بالاستمرار في إضراره مادام يدفع الرسوم المخصصة لذلك (استنادا إلى نظرية كوز Coase theorem). إنه منطق مادي بحت. محاولة مكافحة الاحتكار من خلال الرسوم هي شرعنة وتبرير للاحتكار وليس اجتثاثاً له. علاج الاحتكار معروف في الشريعة الإسلامية، وليس منه بحال فرض رسوم على المحتكر مع بقاء الاحتكار على حاله. فرض الرسوم يبدو كما لو كان علاجاً "ملطفاً" لمشكلة الاحتكار. للأسف هذه المحاولة "الناعمة" تفاقم من المشكلة ولا تخففها. لم يحرم النبي صلى الله عليه وسلم المكوس والضرائب إلا لحِكم عظيمة. من الناحية الأخلاقية، الضرائب إجبار للغني على إعانة الفقير. إذا لم يكن هذا السلوك نابعاً من قناعة داخلية، فإن الضريبة تزرع الغل والحقد والبغضاء بين الغني والفقير. الفقير يرى الغني مجرماً ظالماً، والغني يرى الفقير سارقاً متطفلاً على الآخرين. لبالغ الأسف هذه النبرة وهذه الروح السوداء هي التي تجدها سائدة عند الحديث عن مشكلة السكن. إنها المعاني التي تقوم عليها الشيوعية والاشتراكية، وهي كفيلة بتمزيق أواصر المجتمع وزرع الكراهية بين أعضائه بما هو نقيض مقصود الشريعة الإسلامية من التراحم والتعاون والتضامن. لا يجوز أن نحقد على الغني فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ولا يجوز للغني أن يتكبر أو يتطاول على الفقير لأن المال مال الله. الواجب هو تعاون الطرفين لما فيه مصلحة كل منهما وخير الدنيا والآخرة. هذا من بدهيات الاقتصاد الإسلامي. من الغريب حقاً أن تختفي هذه المعاني من كتابات المختصين عند الحديث عن هذه المشكلة وغيرها من المشكلات المعاصرة. الرسوم والضرائب لها سلبيات اقتصادية عديدة. معظم حديث المدافعين عنها ينصب على أثرها في تخفيض أسعار الأراضي البيضاء. قلة قليلة تتناول الجوانب الأخرى من النشاط الاقتصادي. لنفرض أن شخصاً لديه أرضان في موقع واحد ومساحة متساوية، إحداهما مبنية والأخرى بيضاء. ولنفترض للتبسيط أن المبنى في الأرض المبنية قديم (انتهى عمره الافتراضي) بحيث أصبحت القيمة السوقية للأرضين واحدة تقريباً. الآن افترض أن الأرض البيضاء فُرض عليها رسوم، بينما الأرض المبنية لم يفرض عليها شئ. ماذا سيحدث؟ سيحدث أن قيمة الأرض المبنية سترتفع وستنخفض (على أحسن الأحوال) قيمة الأرض البيضاء. لماذا؟ لأن الأرض البيضاء أصبحت الآن مكلفة (تأكل وتشرب على حد تعبير البعض) بينما الأرض المبنية لا تأكل ولا تشرب. وهذه نتيجة طبيعية لأن طبيعة النشاط الاقتصادي هي تخفيض التكلفة. فإذا ارتفعت تكلفة الأرض البيضاء ستتجه الأموال إلى الأراضي المبنية، ولهذا سترتفع أسعار المبنية وتنخفض أسعار البيضاء. لا يوجد ما يدل على أن صاحب الأرض المبنية سيبيعها أو يمتنع عن احتكارها. كل ما حصل هو نقل الاحتكار من دائرة إلى أخرى. لن تتوقف المشكلة عند هذا الحد، فارتفاع أسعار الأراضي المبنية سيؤدي إلى ارتفاع قيمة الإيجار. وهكذا نجد أن الضحية في النهاية هو المواطن المطحون إن صح التعبير بحسب صحيفة عاجل. تحديد الاتجاه الذي ستسير نحوه أسعار الأراضي البيضاء يتوقف على قدرة صاحب الأرض على تحمل الرسوم. فالذي يتحمل دفع الرسوم سيتمسك بقيمة الأرض محملة بالرسوم أو بما يمكنه تعويضه منها. البعض قد يبني بناء صورياً للتخلص من الرسوم، وهذا سيعزز من ارتفاع أسعار الأراضي المبنية. أما من يعجز عن دفع الرسوم، وهم الغالبية من أفراد الشعب من الطبقة الوسطى فما دونها، فسيضطرون للبيع بخسارة غالباً. السبب بسيط: هذه الفئة لا تملك الموارد اللازمة لبناء الأرض، ولا يملك الدخل الكافي لتحمل الرسوم، فالنتيجة هي أنه سيتهرب من الرسوم ببيع الأرض، ولو بخسارة، لأن هذا أهون من دفع رسوم قد يتعذر عليه دفعها من دخله الحالي. مرة أخرى نجد أن المتضرر من الرسوم هو الطرف الأضعف وليس الأقوى. الشخص القادر إما أن يدفع الرسوم ويتمسك بقيمة الأرض، أو يبني ويرفع قيمة الأرض المبنية. غير القادر هو الذي سيجد نفسه بين فكي كماشة: ضياع المدخرات التي وضعها في الأرض التي كان يحلم أن تؤوي أبناءه وبناته من بعده، أو تآكل دخله وتدهور مستواه المعيشي. حيثما قلبت الأمر، الضحية في النهاية هي الطبقة المتوسطة فما دونها، وهم الذين كان من المفترض أن يكونوا المستفيدين من الرسوم. قبل سنوات تعالت صيحات كثيرين تنادي بزيادة الرواتب. كانت الزيادة تبدو حلاً سحرياً لمشكلة تفاوت الدخل وارتفاع الأسعار. صدرت مكرمة ملكية بزيادة الرواتب. ماذا حصل؟ ارتفعت الأسعار بأكثر من الزيادة في الرواتب. البعض يظنها "مؤامرة". لا يا عزيزي. عندما تلدغ حية سامة جسم إنسان، ينتقل السم عن طريق الدم لبقية أعضاء الجسم. الأوعية الدموية لا تنفذ "مؤامرة" ضد الجسم، ولكنها تقوم بواجبها. المشكلة هي في السم وليس في الأوعية ولا في الدم. وهكذا الحال في الرسوم. ستنتقل هذه الرسوم إلى بقية أعضاء الاقتصاد، ليس بسبب مؤامرة، ولكن من خلال الأوعية الاقتصادية الطبيعية. غياب المعرفة بطبيعة الأوعية الاقتصادية ووظائفها يجعلنا نغفل عن المآل الذي تؤول إليه مثل هذه السياسات غير الطبيعية. لن تتلاشى هذه الرسوم في الفضاء الخارجي، بل ستنتقل وفق القنوات الاقتصادية إلى سائر المناحي الاقتصادية. في غياب قيم التراحم والتكافل الاجتماعي، فإن الطرف الأضعف هو الذي سيدفع الثمن.