في وقت شح فيه التعامل بالأخلاق السامية وقل فيه الترفع عن سفاف الأمور و أجزل فيه الانتقام للذات وكثر فيه فقراء الأخلاق وأعتبر فيه التسامح ضعف شخصية وقلة حيلة. فحين ترى أحدهم يتصبر على الأذى ولا يدفع سيئة بسيئة ولا يرد شتم بشتم فأعلم أنه هذب نفسه ولسانه عمرا ليس بالهين وجاهد ذاته أشد جهاد حتى بلغ من الخلق السامي مابلغ فلم يأبه بكلام منتقص ولا أذى ظالم ولا بهتان كاذب بل مد بصره إلى مالا يراه الكثير ولم يهتم به جل الناس، مد بصره نحو النعيم المنتظر والحظ العظيم الذي يلقاه عند ربه يوم لا قاضي ولا حاكم إلا هو جل جلاله فيعطي الصابر الحليم المتسامح الكريم الحظ العظيم وهو دخوله الجنة كما فسره العلماء في تفاسيرهم بأنه الحظ العظيم كما في قوله تعالى(وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ). قال القرطبي رحمه الله: " وما يلقاها " يعني هذه الفعلة الكريمة والخصلة الشريفة إلا الذين صبروا بكظم الغيظ واحتمال الأذى . وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم أي نصيب وافر من الخير ، قاله ابن عباس . وقال قتادة ومجاهد : الحظ العظيم الجنة . قال الحسن : والله ما عظم حظ قط دون الجنة. فليس بالشيء الهين ولا السهل أن تصبر على المكاره وتكظم الغيظ وتعفي عن المسيء وتتجاوز عن السفيه وتدفع بالحسنة كل سيئة تأتيك وتنأى برد المثل بالمثل بل تكرم وتعطي وتحلم وتغفر حتى وأنت تتألم من كل قلبك وتتوجع وجعاً لا يعلمه غير ربك تبتسم وتتناسى حتى تنسى، والله يعلم أنه ليس هين عليك هذا الأمر لذا أكرمك بالجنة،والخير الوفير والنصيب العظيم في الدارين فلا تحزن ولاتك في ضيق من أمرك فالله عند وعده والله عالم بسريرتك وقلبك فجاهد وتصبر حتى يصبح قلبك سليما أبيض كالثلج لا يضره ما يفعله الجهلاء وتصبح ذو حظ عظيم.. ونحن اليوم في أشد الحاجة لنكون متسامحين متصافين متحابين نسامح ونصفح لأجل الله وليقل الناس ما يريدون لايهم المهم أن الله يعلم لما صفحت ولما عفوت ولما ترفعت عن الإساءة وأنت لديك القدرة الكاملة على رد مثلها وأكثر.. قال الشافعي: لما عفوتُ ولم أحقِدْ على أحدٍ *** أرحتُ نفسي مِن همِّ العداواتِ إني أُحيِّي عدُوِّي عندَ رؤيتِه *** لأدفعَ الشرَّ عني بالتحياتِ وأُظهرُ البِشْرَ للإنسانِ أُبغِضُه *** كأنما قد حشَى قلبي محباتِ النَّاسُ داءٌ، وداءُ النَّاسِ قُربُهمُ *** وفي اعتزالِهمُ قطعُ الموداتِ ومثلما نحن في حاجة للتسامح والتصالح نحن في نفس الوقت في حاجة لتصحيح ثقافة التسامح التي اعتبرها الكثير من الناس ضعف ومذلة ومهانة وصغار فمن الجهل أن يعتبر التسامح هكذا! فهذا النبي عليه الصلاة والسلام رفيع الشأن سامي المقام يضرب به المثل في التسامح ولا يوجد بشر على وجه الأرض متسامح أكثر منه أو مثله فهل تسامحه وعفوه ضعفا حاشا لله وهو الذي أمره الله حيث قال له ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). والاية تضمنت ثلاث مسائل : الأولى : هذه الآية من ثلاث كلمات ، تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات . فقوله : خذ العفو دخل فيه صلة القاطعين ، والعفو عن المذنبين ، والرفق بالمؤمنين ، وغير ذلك من أخلاق المطيعين ودخل في قوله وأمر بالعرف صلة الأرحام ، وتقوى الله في الحلال والحرام ، وغض الأبصار ، والاستعداد لدار القرار . وفي قوله وأعرض عن الجاهلين الحض على التعلق بالعلم ، والإعراض عن أهل الظلم ، والتنزه عن منازعة السفهاء ، ومساواة الجهلة الأغبياء ، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة . فما أجملك إيها المتسامح حين تعفو، وتصل القاطع، وتترفع عن السفهاء، ولاتساوي نفسك بالجهلاء لأنت بفعلك هذا ملك نبيل وحليم كريم. قالوا سكتَّ وقد خُوصِمتَ! قلتُ لهم *** إنَّ الجواب لِبابِ الشرِّ مفتاحُ فالعفو عن جاهلٍ أو أحمقٍ أدب *** وفيه لصونِ العِرض إصلاحُ إن الأُسود لتخشَى وهي صامتة *** والكلب يُحثَى ويُرمَى وهو نبَّاحُ استمر في مجاهدتك لنفسك وتهذيبيها فأنت في الطريق المستقيم تسير ولا يضرك فعل من فعل ولا انتقاص من انتقص ولا لمز ولا همز ولا كلام بذيء ولا سوء خلق، فأنت بالتسامح الذي تتصف به لقمر منير وصاحب حظ عظيم. إشراقة : التسامح ليس ذلا والذليل من ينظر إلى المتسامح بنظرة تقزم ومهانة، ويكفي أيها المتسامح أن الله خصك بأيآت طاهرات.