الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فقد لزمتني مراجعة كتابة عدل بلدة بأطراف الرياض ، فذكر لي احد أهل هذه البلدة بان كاتب العدل لا يداوم إلا ثلاثة أيام في الأسبوع ، الاثنين والثلاثاء والأربعاء، فرتبت مواعيدي على أساس أن يوم الثلاثاء 15/10/1432ه ، أفرغ نفسي للذهاب إلى كتابة العدل لتخليص تلك المراجعة ، وبالفعل تم الذهاب، فوجدت أن كتابة العدل تقع ضمن مبنى مستأجر مكتوب على بابها ، ( محكمة مركز ......) حضرت مبكرا ؛ ولما يحضر جل موظفي تلك الدائرة ، بدأ الموظفون والمراجعون يتوافدون ، نسمع السلام ، ونرى الابتسامات الصباحية المشرقة تعلو محيا وجوه المراجعين والموظفين على حد سوا ، يا صباح الخير اليوم وكل يوم . بدأ الانتظار .. والانتظار .. ثم بدأ المراجعون ينظرون في ساعاتهم ، ولسان حال بعضهم يقول: كأن الشيخ تأخر بعض الوقت ، وآخر يقول انتظروا الشيخ يجيء الآن .. بدا مؤشر الساعة يقترب من التاسعة صباحا وفضيلة الشيخ لم يحضر، والكل متفائل انه في أي لحظة يمكن أن يفاجيء فضيلته الجميع بالدخول، وينجز الأعمال ، وأي حركة في الممر المجاور لصالة الانتظار تشنف آذان المراجعين ، وتشرئب لها أعناقهم . يتوقع الجميع أن الشيخ بحفظ الله وصل . بدأت أتذكر أيام طفولتنا في المدارس ، حينما كنا في الفصول الدراسية ، ننتظر دخول الأستاذ .. الله .. يا أيام الصبا .. بس ما عندنا مواعيد .. وما كان وراءنا مراجعون ينتظروننا .. وكنا نغتبط أن يتأخر الأستاذ أكثر، من اجل أن نقضي مع بعضنا نقل وسماع الحكايات التي لا تنقضي عند الصغار، أو نخرج حصة تربية رياضية ..!! بدأ عدد المراجعين يزداد ، لكن الابتسامات بدأت في التقلص شيئا فشيئا، والذي بقي عنده سعة في الخاطر ، وبقي في مستودعاته بعض ابتسامات صارت تظهر بلون اصفر باهت ، أما التكشير فقد برق فجره .. وبدأ المراجعون يتهامسون فيما بينهم ، فقائل: الشيخ تأخر كثيرا، وثان يقول: أنا خلفي عمل ومراجعين أيضا ، ورئيسى يادوب أعطاني رخصة ساعة ! وثالث يقول : شهودي خلفهم أعمال تركوها وجاءوا للشهادة معي . ورابع يقول: أنا جاي من مسافة بعيده . وخامس يشير على رفاقه مشينا للبلد الفلاني نكتب وكالة فيها أحسن من تضييع الوقت ! وآخر يقول: الظاهر إن الشيخ (سحب) علينا "ما عاد هو جاي" !!، وبدأت الألفاظ السوقية تظهر، وبدأ مؤشر الساعة يشير الى العاشرة ، فقال احد المراجعين ويبدو ان لديه خبرة سابقة في مراجعة هذه الدائرة ، أصلا الشيخ لو جاء في أول الدوام أنجز ثمان إفراغات أو وكالات بس ، وبعد صلاة الظهر "رح لهلك " . !! ، فقال قائلنا : والباقين ؟! قال: النهار الثاني ! أنا اقلب ناظري في كل متحدث ، وأرعي سمعي لكلام المراجعين ، وكنت منذ الصباح مفرط التفاؤل، كثير التبسم . بيد أن المراجعين بدأت تتغير نبرات أصواتهم إلى الأسوأ ، أما ابتساماتي فبدأت في التقلص .. تقلصت .. تلاشت تماما .. لم يبق لدى حتى من الابتسامات الباهته ما يمكن إظهاره ، لكوني بدأت أدرك أن همسات الموظفين توحي بشيء ما ، وأن الوقت بدأ في الضياع بلا فائدة ، وان مشواري هدر، فتلطفت إلى بعض من حول الشيخ ، فقلت : الشيخ ما اتصل عليكم يقول "ما هوب جاي" . قال: أبدا . قلت: طيب من فضلك اتصل على الشيخ ، ربما يكون في الطريق على شان ننتظر على " سنع " ! أو نذهب لأعمالنا ، قال والله أنا اتصلت بس ما يرد . قلت متفائلا: لعله في الطريق وما سمع رنة الهاتف ، كرر عليه من فضلك . بعض الموظفين مغتبط بتأخر فضيلة الشيخ ، حتى يتسنى له الخروج من الدائرة لمصالحه الخاصة ، يقول بعضهم : ليت الشيخ ما يجي اليوم ! علشان " افرك " عندي اليوم عمال وصبة سقف . فهمست لصاحبي : يا أخي أنا كان عندي اليوم سفر مهم ، وأجلته من اجل أن أنجز عملي هنا ، ولو ما جاء الشيخ اليوم سيكون مشكلة أخرى ، سأضطر إلى تأجيل سفري مرة أخرى لأول الأسبوع القادم . واحضر هنا غدا الأربعاء . عاودت الإلحاح على الموظف قائلا :من فضلك تأكد من فضيلة الشيخ سيحضر أو لا ؟ اخذ جواله وخرج من الصالة وكأنه يريد الاتصال بالشيخ .. لكنه تأخر علينا بعض الوقت .. بدأ تسرب بعض المراجعين من الصالة ، وتسرب بعض الموظفين من الإدارة ، وأنا لا يزال عندي بقية أمل وتفاؤل في أن يفجأنا الشيخ بالحضور.. خرج صاحبي وهو من أهل البلدة المعنية .. ثم دخل بعد برهة وهو شاحب الوجه ، مقطب الحاجبين .. "يالله خير" .. قال : الشيخ "ما هوب جاي" !!. قلت : كيف عرفت ؟ قال: اخبرني الموظف انه اتصل بالشيخ وقال له : فيه مراجعون ينتظرونك ، فقال الشيخ : خلهم يجون بكرة !! خرج بقية المراجعين .. معلنين عدم الرضا عن هذا التصرف . قلت لصاحبي : أنت تعرف أنني جئت من الرياض ، ومن الصعوبة بمكان أن أعاود المجيء مرة ثانية غدا ، وأعطل عملي وأعمال آخرين ، وربما لا يحضر الشيخ أيضا ، بودي نقابل الموظف المختص ونشرح له الوضع حتى يؤكد لنا حضور الشيخ غدا من عدمه ، وحتى لا نأتي إلا على بينه ، لكنه تبسم وقال: الموظف يا حبيبي "فلت" ! قلت كيف ؟ قال شفه عند عمارته يحضر الصبة ! قلت يعني خرج من الإدارة قال : فرصته ! إيش يقعد يسوى ؟! قلت: ولا أي اعتذار للناس ؟ بس كذا ؟ قال : ما عندك احد !! . قلت : طيب اتصل عليه واسأله . فأخرج جواله واتصل عليه وسأله.. ؟ فرد عليه بأن الشيخ يقول: خلهم يجون بكرة ، ما عندي أكثر من كذا !!. فرجعنا أدراجنا إلى الرياض منتظرين يوم الأربعاء . اضطررت إلى تأجيل سفري للمرة الثانية ، إلى أول الأسبوع القادم ، لأتمكن من الحضور يوم غد الأربعاء لدى كتابة العدل المعنية. بدا لي ألا أغامر بوقتي ، فلربما يتغيب الشيخ ثانية ، فأجريت اتصالا بصاحبي عند الساعة التاسعة من الغد ؛ فسألته : تدري الشيخ حضر اليوم ؟ . قال أجريت اتصالا الآن بمكتبه وقالوا : الشيخ لن يحضر اليوم الأربعاء ! ، قلت الم يقل بالأمس خلهم يجون بكرة ؟! كيف لو جئنا ؟! قال: ما حضر، لكن يقول : خلهم يجون الاثنين القادم – طبعا هو لا يداوم السبت والأحمد- ولا ادري هل هو مكلف بعمل في جهة أخرى؟ أو معفى من مقام وزارة العدل ؟ أو من وزارة الخدمة المدينة ؟!! قلت : وهل سيحضر الاثنين القادم ؟ قال ما ادري لكن هذا اللي قالوا لي : قلت يا صاحبي هذه تسميها العرب "مواعيد عرقوب" وفي المصطلح الحديث " فساد إداري" . وبعد : فأما سفري المؤكد فقد أجلته مرتين ، وأما حضور الشيخ لليوم الثاني فلم يحضر، وتعطلت أعمالي وأعمال مراجعين كثر.. ومن هنا أنشأت هذه الأحرف ، وأنا والله لا اعرف من هو فضيلة الشيخ ؟ ولم يسبق لي أن رأيته ، ولم أحاول أصلا أن أتعرف حتى على اسمه ، لكنني آمل أن يكون للشيخ مندوحة في الغياب وتأخير المراجعين . ويطيب لي أن أخاطبه من خلال هذه الموقع قائلا له ولأمثاله من موظفي الدولة : يا فضيلة الشيخ : نحن ممن يقدر الظروف ، ويلتمس المعاذير لإخوانه ، ونعتقد ان المسئول والموظف يعرض له أحيانا ظروف قاهره ، تجبره على التأخر أو التغيب ولا ضير عليه ما دام الأمر خارجا عن إرادته ولم يكن مفرطا ، أو متهاونا . ونحسبكم إن شاء الله كذلك ، والله حسيب كل نفس . أما إن كان الأمر ناتجا عن تهاون ، وقلة مبالاة ، وعدم مراعاة للآخرين ، وانتظار الناس ، والنظر إلى المراجعين من برج عال موهوم ، وعلى أن الموظف صاحب منة على المراجعين - ونحن ننأى بكم عن ذلك الخلق – فيجب والحال ما ذكر أن يعلم أي موظف مهما يكن – ولو صدر اسمه بفضيلة أو معالي أو سعادة أو أي ترويسة أخرى – ليعلم أنه من حق أي مراجع بصورة نظامية لأي دائرة كانت ، أن تنجز أعماله على الفور من غير تأخير ، ولا مماطلة ، ولا منة لأحد في ذلك ؛ فالموظف أيا كان لا يعدو كونه أجيرا يتقاضى مرتبا من بيت مال المواطنين مقابل أن يجلس لخدمتهم في أوقات حددتها الأنظمة . وأن من تهاون أو ماطل أو من على أحد من المراجعين النظاميين في أمر عني به وأسند إليه انجازه وتقاضى عليه أجرا فإنه قد ارتكب جناية في حق ذلك المراجع – نعم ربما لا يستحضر أكثر الموظفين أن تلك جناية يستحق عليها التعزير- فعليه أن يتحلل من المراجعين ، ويستبيحهم – وهيهات - قبل ألا يكون دينار ولا درهم ولا معاملات دنيوية ، فيؤخذ من حسنات ذلك الموظف المفرط وتعطى للمراجع النظامي ، فإن فنيت حسناته قبل قضاء الحق الذي عليه ، اخذ من سيئات صاحبه فحملت عليه فأصبح من المفلسين، وهذا مقتضى العدل الذي قامت به السماوات والأرض ، ونصبت لأجله الموازين القسط . والناس - كما تعلمون يا فضيلة الشيخ ، والخطاب موجه لك بالدرجة الأولى ، ولكل موظف- الناس مبنية حقوقهم على المشاحة ، وما المراجع النظامي إلا واحد من الناس ، ومن حقه أن يستوفي ويوفى ، في أي دائرة عنيت بمصالح الناس ، وأناط بها ولي الأمر مسئولية معينه ، وأكد بين الوقت والآخر على كافة الوزراء والموظفين انجاز الأعمال من غير تأخير، وأوصاهم بالعناية بالمواطنين .. ومع هذا نجد التهاون واللامبالاة عند بعض الموظفين ، وعند بعض من يضن الناس بهم خيرا فلا هو حضر وأنجز ، ولا هو اعتذر على السنة موظفيه عذرا يقبله العقلاء .. بل بكل بساطة .. أو قل إن شئت بكل سذاجه .. تعال بكره !! ، نعم سيضل المراجعون يترددون يوما بعد يوم بحسب ظروفهم ، حتى ينجزوا أعمالهم من عند ذلك الأجير أيا كان موقعه ، ولكن ليكن في ذهنه .. وذهن من اسند إليه المسئولية وتهاون في مراقبته إن كان ، أن بعض المراجعين إن كان كريما فعفى عن جنايتهم على وقته وماله في الغيب من غير طلب منهم فإن العشرات من الناس بل والمئات لن يسامحوهم في غيب ولا شهادة ، ولو طلبوها ؟ فكيف حالهم يوم التناد ؟ عفا الله عنا وعنهم . يا سادة : إن تعطيل الموظف المعني لزيد من الناس ، يعني سلسلة من التعطيلات في أحايين كثيرة ، فزيد بمراجعته تلك عطل خالدا وعمرا كانا يراجعانه ، وخالد بمراجعته وعمرو وتعطيلهما من قبل زيد قد عطلا آخرين من ورائهم ، وهلم جرا ، ولا أظن ذلك الموظف يسلم من تبعة تلك السلسلة من التعطيلات .. فهل يعي الموظف الأجير هذا الشعور. وهل يعي قول الله تعالى ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) . إن تغيب كاتب العدل المعني يوم الثلاثا والأربعاء الماضي وجنايته على المراجعين لأتمنى إن يجد لها مندوحة فيسلم . كما أن تلك الحادثة وما شاكلها لا تنسحب على سائر كتاب العدل وموظفي الدولة الأخيار ، ولكنها قضية فردية خاصة تتعلق به وبمن سلك مسلك تعطيل المراجعين . وبعد : فهل ستحضر يا فضيلة الشيخ يوم الاثنين القادم ؟ والله اسأل أن يجعلنا مفاتيح للخير مغاليق للشر . ويصلح حال الجميع ..اللهم آمين . د . عبد الرحمن العضياني