الحلقة السابعة ((بائع المخُزي)) اقتادوه إلى ساحة الجردة يسحبونه بطرف غترته المربوطة في عنقه. أمعنت النظر في وجهه المتجهم ومعالم الرعب والخوف ترسم أثارها وخطوطها في وجهه، وعيناه الزائغتان تدل على مدى الخوف الذي يعتريه ، دار بصره حول الجماهير الغفيرة التي توافدت إلى الساحة وهي ترميه بنظرات ثاقبة ومتوجسة. توافد الناس من كل الاتجاهات واكتظت الساحة بالمشاهدين حتى سطوح الدكاكين امتلأت بالمتسلقين، وبدأت الطرقات الضيقة المؤدية إلى الجردة تتدفق بالأفراد الذين جاءوا على عجل ، الأطفال والشباب، وبعض النساء الفضوليات يتخذن مواقع لهن ويسألن عن الحدث والحكاية بكل تفاصيلها. \" عبده الخباز\" هو الضحية وهو الذي جنى على نفسه وهو الذي تخطى العُرف والقانون وقام ببيع التتن في مخبزه بطريقة سرية ، حتى عثر عليه رجال هيئة الأمر \"النواب\" وقبضوا عليه بالجرم المشهود . وأحيل إلى القضاء ، وحكم عليه القاضي بثمانين جلدة وتغريبه أو تهجيره إلى بلده الأصلي \"اليمن\" الذي جاء منها . ردعاً له وتأديباً لأمثاله . لأن ترويج \"المخزي\" أو شربه يعتبر جريمة تُعرّض صاحبها إلى العقاب. اكتمل توافد اللجان المنوط بها تنفيذ العقاب . والتي تتكون من النواب بصفة مشرف على التنفيذ، ورجال الأمير \"الخوياء\" الذين ينفذون العقوبة. كنت من بين المتفرجين على هذا المشهد الدرامي وهو يتحرك بكل تفاصيله. مشهد حزين وكئيب ومخيف بنفس الوقت. (وعبده) المسكين كان يقف بالوسط وهو يرتجف كدجاجة أخذت دشاً بارداً في زمهرير شتاءٍ. فجأةً ساد الصمت والهدوء بين المتفرجين عندما تقدم قارئ البيان ليلقي بيانه الصادر من المحكمة الشرعية والمصادق عليه من قبل رئيس المحكمة. بسم الله الرحمن الرحيم \"إن هذا الزيدي الواقف أمامكم اقترف جريمة بيع \"المخُزي\" ولذلك حكمت عليه المحكمة بثمانين جلدة وطرده من حيث أتى ردعاً له وتأديباً لأمثاله الذين يحاولون هدم الأخلاق وهدم القيم الإسلامية في بلادنا والتعدي على عادات المجتمع وأعرافها\" .... جذبوه من ربطة عنقه ومدوه على الأرض ، ثم جثا رجل الأمارة فوق رأسه كما جثا آخر فوق رجليه وشدوه جيداً حتى كاد ينفصل إلى جزئين. تقدم رجلان آخران يحمل كلاً منهما عصا غليظة. وقف أحدهما مستعداً عن يمينه ووقف الآخر عن يساره. بدأت العصي تتهاوى على مؤخرة عبده كصورايخ وتحاول أن تخترق لحمه وتمزقه أرباً. حاول أن ينهض بقوة ولكن شدة الضغط من أولئك الذين يجثون على جسده ولكن كل محاولاته التي قام بها كانت يائسة .كل الجماهير أصابها الوجوم والذهول والألم من تلك العصي التي تتهاوى على مؤخرة عبده ومن تلك الصرخات المستغيثة التي تنطلق من فمه ولا مجيب .ما كاد رجال الأمير يبدؤون بالجلدات الأولى حتى توقفوا فجأةً . وقام أحد الرجال بتفحص جسد عبده ثم أدخل يده من تحت الملابس وجذب وسادةً من فوق مؤخرته , وأفشلوا مخططه. والآن وقد أصبح عبده عارياً تماماً ما عدا ذلك الثوب البالي الذي يلف جسده. بدأ العد من جديد ولكن هذه المرة كانت عنيفة وبلا حجاب أو واقي يحمي مؤخرته مما جعل عبده يطلق صرخات اخترقت قلوب المتفرجين وأغلبهم أصبح حزيناً وكئيباً. قبل نهاية الضربات بقليل سكن عبده ولم يعد يتحرك ، وأصبح كجثة هامدة ، توقفت الحركات والاهتزازات وظهرت على ملابسه بقع الدم \"وأشياء رطبة لا داعي لذكرها\" وفي النهاية فقد وعيه عندما توقف الجلد, ثم سحبوه إلى قربة ماء كانت بالموقع ثم رشوا جسده ووجهه حتى تحرك وبدأت معالم الحياة تعود إلى جسده، ثم ركنوه إلى زاوية من زوايا الساحة يتضرج بدمه. تحركت الجماهير وأحدثوا فجوةً بينهم دخلت منها عربية يجرها حماراً تحمل بضاعة عبده وهي كمية كبيرة من كراتين \" التتن\" بعد ذلك قام رجال الهيئة بإنزال الحمولة ووضعوها على الأرض بشكل كومة كبيرة ثم أشعلوا فيها النار. كنت أشاهد ألسنة النيران وهي تلتهم البضاعة . وأنتشر الدخان ورائحته عمت أرجاء المدينة. كُنت في الثالثة عشر من العمر وكنت من بين المتفرجين وشاهدت الحكاية بكل تفاصيلها أصبحت محتاراً بين مشهدين , مشهد ذلك الضعيف وهو يعاني العذاب، ومشهد الكبار وهم يهللون ويكبرون. ولكن السؤال الذين كان يدور في ذهني بعد ذلك بسنوات هو لماذا يجلد عبده في بريدة ويترك آخر في مواقع أخرى ومدناً أخرى بالمملكة يمارس هذه المهنة بحرية تامة وبلا عقاب ينتظره؟ . ثم ما الذي جعل التتن مكروهاً في هذا المجتمع بينما في مدن أخرى لا تجد تلك الحساسية الزائدة عن اللزوم؟ ولكن هل يوجد في بريدة ناسُ مدخنون وبائعون آخرون غير الخبازين يمارسون بيعه بعيداً عن أعين الرقباء؟ ولكن أيضاً هل جميع المدخنين مرفوضون من المجتمع؟ هذه الأسئلة وغيرها يستحيل الإجابة عليها بسهولة إلا لشخص يعرف جيداً تفاصيل هذا المجتمع المحافظ ولكنه محافظ من جهة ومتفتح من جهة أخرى، وإن كنت أتكلم عن موقف المجتمع فأنا أعني مجتمع ذلك الزمن الذي ترعرعت فيه ولا أقصد مجتمع هذه المرحلة التي نعيشها الآن حيث اختلط الحابل بالنابل. وصارت بريدة ليست هي بريدة التي كنا نعرفها بمرحلة السبعينات والثمانينات من القرن الهجري المنصرم. تغيرت فيها المفاهيم وصار ما هو ممقوتاً في ذلك الزمن متسامحاً فيه الآن ، ولم تعد بريدة تختلف عن مثيلاتها. لا بل بدأت تتغير بسرعة وتُحرق المراحل أكثر من غيرها. في ثنايا عباراتي هناك أسئلة طرحتها ، عن ظاهرة النفور من التتن منذ زمن ليس بالقليل أريد منكم أن تشاركوني في طرح الإجابات، وأنا بدوري سوف أقوم بطرح رأيي ولكن في حلقات قادمة ليس قبل أن أنتهي من سرد ذكرياتي عن المواقع التاريخية في بريدة. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى أرجو منكم أيها الأعزاء أن تقولوا لهؤلاء العنصريين الذين يسعون في الأرض فساداً أن تقولوا لهم ليس في بريدة عنصرية ولم تعرفها في الأزمان المغادرة . وأن أهل بريدة قبيلة واحدة . اختلطت دماء القبليين مع الحضريين دفاعاً عن حياضها وسجلوا تاريخاً واحداً مشرفاً وأن هذه العنصرية المقيتة لم تعرفها بريدة منذ عقدٍ واحدٍ من الزمن وردت إلينا من كهوف أفغانستان، ورسمت خطوطها في بارات إسرائيل وهؤلاء المغفلون هم جنود التنفيذ وهم أول من يحترق في لهيبها.