يشكل المجتمع السعودي لغزاً غامضاً للعديد من الباحثين العرب والغربيين على السواء، فالمجتمع السعودي مجتمع \" كتوم \"، إن صح التعبير، لا يكشف نفسه لغير أهله إلا في حالات نادرة، ولذلك فإن الدراسات القليلة لهذا المجتمع بقيت قاصرة وغير عميقة، رغم جدية تلك البحوث القليلة ومحاولتها سبر غور المجتمع السعودي. وعندما جاء إعصار الطفرة، وتمازجت الحداثة والتقليد لإنتاج مجتمع سعودي مختلف، تتصارع في أعماقه قيم الحداثة والتقليد، وقيم هجينة هي مزيج من هذا وذاك، أصبح المجتمع السعودي بؤرة جذب للباحثين عن حالات اجتماعية مختلفة، ولكن مع ذلك بقي المجتمع السعودي كتوماً، وعصياً على محاولات اختراقه معرفياً. ولذلك فإنه في ظني، فإن على الباحث عن معرفة عميقة للمجتمع السعودي المعاصر، البحث عن نبض هذا المجتمع من خلال الرواية السعودية المعاصرة، والتي أخذت تفرض نفسها، وبزخم كبير، منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وتنامى هذا الزخم طوال سنوات العقد الأخير من القرن العشرين. ففي ظل ندرة الدراسات العميقة لتحولات المجتمع السعودي المعاصر، تأتي الرواية السعودية لتسد فراغاً كبيراً في هذا المجال، من خلال رصدها لحركة هذا المجتمع وتقلباته، وخاصة في فترة ما بعد الطفرة. صحيح أن التاريخ لا يؤخذ من الرواية ذات الطبيعة الفنية المختلفة، ولكن في ظل غياب أو ندرة تلك الدراسات المؤرخة لتاريخ ما أهمله التاريخ، فإن الرواية في هذه الحالة تلعب دوراً مهماً في تتبع حركة المجتمع ونبضه، من خلال تلك النصوص التي تتحدث في أكثرها عن تجارب خاصة تبرز ما هو عام في سياق الحديث عن الخاص. وصحيح أيضاً أن الرواية قد تركز على حادثة بعينها أو بطل بعينه، فتبرزه أكثر من غيره، أو تضخم هذه النقطة أو تلك بحثاً عن الحبكة والإثارة، وهذا هو دأب الرواية على أية حال، ولكن يمكن في ذات الوقت رصد وضع المجتمع وحركته وتناقضاته من خلال السرد الروائي. بل يمكن القول أن الرواية السعودية اليوم، تلعب ذات الدور الذي لعبته الرواية الكلاسيكية الأوروبية، وذلك مثل الرواية الروسية مع تولستوي ودوستويفسكي في تشريحها للمجتمع الروسي وبسط تناقضاته وتحولاته، ومثل الدور الذي لعبته روايات ديكنز ولورنس في تعرية المجتمع الفيكتوري الإنجليزي، ومثل روايات هوجو وبلزاك وزولا وفلوبير بالنسبة للمجتمع الفرنسي، ومثل روايات نجيب محفوظ خاصة بالنسبة للمجتمع المصري الحديث. فالرواية السعودية المعاصرة تقوم بعرض حي، وبتفاصيل دقيقة، لحالة المجتمع وتحولاته وتناقضاته، سواء كانت تلك التناقضات طبقية الجوهر، أو كانت تدور حول العلاقة بين الجنسين في مجتمع يُقدم نفسه على أنه ملائكي الوجه، وهو في أعماقه بشري المحتوى، أو تلك التناقضات التي تتناول العلاقة مع السلطة الاجتماعية ذات اليد الخفية، أو السلطة السياسية المباشرة، وذلك بتشابه كبير مع الرواية الأوروبية الكلاسيكية، ونحن نتحدث هنا عن مضمون الرواية لا عن فنياتها. ففي الرواية الإنجليزية، وخاصة في العهد الفيكتوري، يبدو المجتمع عارياً تمام العري، رغم أن ذلك المجتمع كان يبدو وكأنه تام التجانس، في عباءة من ملائكية مبالغ في أمرها، وذات الشيء يُمكن أن يُقال عن الرواية الفرنسية والروسية الكلاسيكية، التي تصور مدى التناقضات الطبقية بشكل خاص، والتوتر المرافق للتحول الاجتماعي في تلك اللحظة من الزمان. ومن المعروف أن الرواية فن مديني، أي أنها لا تزدهر إلا في مجتمع مديني معقد، فالمدينة وتعقيداتها، وليس القرية وبساطتها وإن تحولت إلى أعمال روائية لاحقاً، هي المادة الخام للرواية، أو لنقل أن المدينة وتعقيداتها هي الجهاز العصبي للرواية، وما تستند إليه الرواية من أرضية تمنحها هامش حركة متسع. تأتي الرواية فتجلو هذه المادة الخام، وتحولها إلى صورة واضحة المعالم لهذا الجانب المعتم أو ذاك من المجتمع وحركته. وبالنسبة للمجتمع السعودي، فإنه ما كان يُمكن للرواية أن تزدهر إلا بعد اكتمال مدينية المجتمع، وهذا لم يتم بدوره إلا بعد الطفرة وما رافقها من تقلبات اجتماعية عاصفة نقلت المجتمع من حالة بساطة متناهية إلى حالة شديدة من التعقيد، وخاصة في مجتمع يحاول الموازنة بين تحديث غير مُزل وتقليد غير مخل، في معادلة غاية في الحساسية. صحيح أنه كان هنالك محاولات روائية سابقة للطفرة بسنين طويلة، ولكنها لم تكن روايات بمعنى الكلمة، بقدر ما كانت نصوصاً أدبية أقرب إلى الوعظ والإرشاد المباشر، منها إلى الرواية أو حتى السرد المجرد. ما نتحدث عنه هنا هو تلك الروايات التي تحمل في ثناياها صورة حية للمجتمع بكل تحولاته وتناقضاته وتوتراته. ما نتحدث عنه أيضاً هو تلك الروايات التي تنقلك إلى جوف المجتمع، ومن خلال هذه النقلة تستطيع أن تكون صورة دقيقة لمسار هذا المجتمع وإلى أين آل بعد عقود من التحولات. مثل هذه الروايات ما كان يمكن أن تظهر وتزدهر في السعودية إلا بعد هدوء عاصفة الطفرة، وهذا هو ما حدث في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، حين بدأت الرواية السعودية الحقيقية، المصورة لحالة المجتمع السعودي في فرض نفسها. هذه الرواية الجديدة تقوم بكشف أعماق المجتمع السعودي وتنوعه بشكل يفوق في دقته أعمق الدراسات القليلة التي كُتبت عن هذا المجتمع، والتي كانت في معظمها بأقلام أجنبية، أو رسائل دكتوراه وماجستير لطلبة سعوديين، قبعت في مكانها بعد انتهاء الغرض منها. وأنا هنا لا أتحدث عن تلك الروايات التي تدور حول السعودية بأقلام غير سعودية، بقدر ما أتحدث عن الرواية السعودية بأقلام سعودية، ففي النهاية، أهل مكة أدرى بشعابها. فمثلاً، مهما كان هنالك من دراسات حول مجتمع جنوب السعودية، فإنها لا تصور ذلك المجتمع بالدقة والوضوح بالشكل الذي يظهر في أعمال عبدالعزيز مشري أو عبده خال أو \" حزام \" أحمد أبو دهمان. في مثل هذه الأعمال تستطيع أن تكون صورة واضحة المعالم لما كان عليه ذلك المجتمع ولما آل إليه، حين اخترقته عوامل التحديث، فلم تحدثنه في النهاية، ولا أبقته على حالته الأصلية، فنسي مشيته ولم يمشي كالحمامة. كما أنه لا يمكن لدراسة اجتماعية، مهما كانت عميقة، أن تدخل في أعماق المجتمع الشيعي السعودي في الشرق مثلاً، مثلما فعلت صبا الحرز في \" الأخرون \"، أو طيف الحلاج في \" القران المقدس \". تأخذك مثل هذه الروايات إلى تفاصيل الحياة اليومية في مدينة كالقطيف، مخترقة البيوت وأسرارها، والنفس ومكنوناتها، بشكل لا يمكن لأي بحث اجتماعي أن يقوم به بتلك الحيوية التي يصورها النص الروائي دون غيره من نصوص. وحين الحديث عن الإرهاب وجذوره الاجتماعية والثقافية، لا يمكن لأي دراسة جادة عن هذا الموضوع أن تغفل \" الإرهابي 20 \" لعبدالله الثابت مثلاً، الذي يتحدث عن تجربة واقعية هي أعمق بالضرورة من أي دراسة تأتي من خارج التجربة المباشرة. وحين يكون الحديث عن العلاقة المتوترة بين الجنسين في المجتمع السعودي، لا يمكن أن نغفل أعمال ليلى الجهني، و\" أوبة \" وردة عبدالملك، و\" ثمن الشوكولاتة \" لبشائر محمد، و\" بنات الرياض \" لرجاء الصانع، و\" اختلاس \" لهاني نقشبندي، و\" حب في السعودية \" لإبراهيم بادي. بطبيعة الحال لم تُذكر تلك الأعمال إلا على سبيل المثال، وإلا فإن القائمة تطول. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الغرض هنا ليس تقويم هذه الروايات فنياً، بقدر ما هو الإستشهاد بها كمصادر جزئية لتاريخ حراك اجتماعي، وتغيرات غير محسوسة، لا يلبث أن يطويها النسيان حين يُهملها التاريخ بعد حين، فلا يبقى في النهاية إلا مثل هذه الروايات، ملقية بعض الضوء على ما هو قابع في الظلام..نواصل ومضات من الماضي في القادم من أيام. تركي الحمد ---------------------------------------------------------------------------------------------------------------- تعليقات الزوار هيا العمر كم انت صادق يا والدى الثانى معنا ومع ادبك والناس والمعجبين ندعو الله فى كل وقت بطول العمر لك بعد ما تكتب عن الاجداد فى زمن مضى تستمر المسيره وتكتب عن الاباء وتضع مقارنه بين الجيلين . حفظك الله ورعاك يا تركى القصيمي استاذ تركي اسمح لي ان ارفع القبعة احتلراما لما خطته اناملك الجميلة لكن التساؤل الملح هو حول المتسبب بتعطيل وصول الدراسات الى مستوى الحقيقة الواقعية على الارض؟؟ العادات التقاليد البيئة العلمية او البيئة الدينية ..!! العوامل كثيرة كنت اتمنى ان تكون قالبا مكثفا في مقالك الرائع .. تقبل مروري ايها الرائع.. منى المحمد الكاتب تركي الحمد تطرق لموضوع هام جدا جدا فالدراسات هي الطرف الرئيس في الكثير من عوامل التطور للمجتمعات والنصوص الروائية هي خيط في منظومة خيوط للمجتمعات دمت بود الفارس تشخيص رائع من مفكر أروع صالح الاحمد أختلف مع الكاتب حول قضية الرواية وانها فن مديني لايظهر الا بالمجتمعات المدنية ولعل التاريخ يحفل بروايات مدهشة تغلغلت وسط قرى وحارات قديمه وخيام صحراوية .. شكرا للكاتب فمقالته رائعة جدا شمري من حائل لايمكن ان تنطلق الرواية الى فضاء واسع وخصب دون اطلاق الحرية لعوامل اخرى مترابطة معها ففي النهاية تعتبر الرواية حلقة في سلسلة مترامية فالتحولات لاتكفي لصناعة رواية واقعية بل الواقعية تصنع الرواية فهد المديفر آه عندما يتدفق شلال الحرف من يدك ياتركي ...تسلم يمينك عبد الله العرفج الرواية هي الرواية فقط ، يقول ذلك نقاد الأدب ومع ذلك يمكن قراءتها اجتماعيا كما يمكن قراءة المجتمع من خلالها بمعنى أنها تفسر المجتمع كما أن المعرفة السوسيولوجية قادرة على تفسير الرواية التي ترتبط بالمجتمع بعلاقة انعكاسية بمعنى أنها تشبه المرآة التي تعكس مايقع عليها ولكن اختلف النقاد في تحديد شكل هذا الانعكاس وبالتالي شكل العلاقة بين الأدب والمجتمع ؛ هل هو آلي ميكانيكي بسيط أم هو محرف من خلال مرآة مشوهة أو ضبابية كثيرا ما تخفي اكثر مما تظهر . إن العمل الأدبي شكل غير قابل للقولبة ولذلك فهو متعدد القراءات وبقدر ما يحيل الى التاريخ والاجتماع والجغرافيا الا أنه شئ آخر غير ذلك كله بدر الحربي يتشكل التاريخ المطبوع في ذهن الانسان عبر النقل الروائي الغير معتمد على نصوص التقاليد بل على الحقيقة ولاغيرها فحجب الحقائق هو ما يجعل الروايات الجريئة تشتهر بينما في واقع الامر هي تتجرء على الواقع الانساني مع الرواية في السعودية الفهد يمكن للبشر ان يرسموا المسار الصحيح نحو ابراز ارثهم الاجتماعي عبر الرواية لكن غالبا مايكون الموقف صعبا في ارهاصات الحياة البسيطة التي لاتؤمن بالرواية ككنز ثقافي وتاريخي ...سلمت اناملك ياتركي عبد الكريم العمر تآملت الجزء الأول من ومضات الماضي وكنت قد وقفت على أطلال غربته الأجداد في ( الكرك ) وهاتفتك كي استمع الى تاريخ أهملته أنا , وكنت فرحا بإتصالي ومستغربا لجهالتي وقلة معرفتي بهذا التاريخ الذي هو ليس مجرد تاريخ الأجداد بل تاريخ الطين والأرض والوطن , لا ألوم نفسي فقط ولكن اللوم ايضا على من طمس هذا التاريخ الذي لم نقرأه مطلقا منهجا دراسيا أو محاضرة رسميه بل كل من تحدث وكتب عن تاريخ العقيلات هم أحفادهم أو ورثتهم إن صح التعبير . في الشام وفلسطين ونجوع مصر كانوا العقيلات مثالا حيا للأمانة والصدق والتدين ولا تزال ذكراهم عطرة وتوارثت سيرتهم الأجيال الى يومنا هذا , سأبحث معك في هذا التاريخ ( المطموس ) في ضواحي دمشق وأطراف عمان وشرق القاهره ربما سأجد هناك مالم أستطيع إيجاده في ( الخبوب نفسها ) . دمت بخير يا سيدي وسيد القلم فاهم يمكن للمرء ان يتمعن حوله ليعرف تأثير الرواية الادبية على المجتمعات وبخاصة الاوربية التي تحولها الى ملاحم سينمائية ومسرحية وقد استيقظ العرب الان لكن بصورة مخجلة فالروايات اصبحت ميدانا لجذب الاموال عبر تسويق المسلسلات ووزارات الاعلام العربية للاسف لاتولي الروايات اي اهتمام بل تتضامن مع الذين لا يريدون هذا الموروث الهام .. منى المحمد تزداد اشراقا كل مقال بعيني ايها الروائي المدهش عبد العظيم لا يوجد تحليل حتى الآن , وما زلنا في السرد , مع تحفظي على كون الأحداث بهذا التخطيط , و إنما هي تغيرات الحياة تحت تأثير قوة القبول و الرفض