في الجامعات تصنع الأمم مستقبلها، وترسّخ خصوصيتّها، وتبني أفرادها. والدول المتقدمة تقنيًّا وصناعيًّا تولي الجامعات اهتماماً كبيراً، وتعتمد عليها في بناء خططها وحلّ مشكلاتها. والجامعات تُبنى على أسس حضاريّة، وفكريّة، وقوميّة، ولم يتخلّف عن الأخذ بهذه الأسس إلا الدول التي لا هُويّة لها. وفي المملكة ما يربو على ثلاثين جامعة، حكوميّة وأهليّة، لكلّ منها رسالتها التي تميّزها، ورؤيتها التي تتطلّع إليها، وهي بذلك مصدرٌ كبير لمخرجات يعتمد عليها الوطن في تحقيق أهدافه، وتبنّي أبنائه لرؤيته. إنّ رؤية الوطن 2030 تقوم على محاور ثلاثة كبرى هي منطلقها، وهي المرجع الذي إليه تؤول تلك الرؤية، وأبرز هذه المحاور، وأعظمها أهميّة، المحور الأوّل الذي يصف المملكة العربيّة السعوديّة بأنّها هي العمق الإسلاميّ العربيّ، وهو محور لا يتوفر عليه وطن آخر بهذا القدر من العمق والأهميّة. ومن هذا المنطلق الشامخ، والعمق الراسخ تتمثّل المملكة رسالتها وتتبوّأ مكانتها التاريخيّة الدينيّة، ولكونها تملك هذه المقومات المتفرّدة في مختلف الأبعاد الإقليميّة والدوليّة، فإنّها في مقدمة رؤيتها وديباجتها تشترط للمواطن الذي هو المستفيد الأوّل من هذه الرؤية، ولمؤسساتها وقطاعاتها، وللعالم؛ أنّ رؤيتها وخططها التنفيذيّة لن تتخلّى عن هذا العمق الراسخ، وستجعل منه مصدرا لقوّتها وتميّزها. والمحور الثاني لهذه الرؤية هو القوة الاستثماريّة، ويهدف إلى نقلة اقتصاديّة كبيرة تقلّل من الاعتماد على المصدر الوحيد للدخل، وتنوّع مصادره، وهذا المحوران بينهما علاقة وثيقة، وصلات متكاملة، فالعمق الوطنيّ الإسلاميّ العربيّ يحتاج لمخرج الجامعات من الكوادر البشريّة، والاقتصاد يحتاج كذلك لخريجي الجامعات في سوق العمل، وستخلق سوق العمل القادمة منافسة على الإنتاجيّة الصناعيّة، والماليّة، والإداريّة، ويتّجه الطلب على التخصصّات التي تتّصل بهذه السوق وتخدمها، ويصبح المال والأعمال هو المصبَّ الرئيس الذي تُوجّه الجامعات مخرجاتها نحوه، وحين تكون الجامعات "محصورة" في رغبات سوق العمل فإنها ستصبح أشبه بمراكز التدريب الملحقة بالشركات، وغرف التجارة والصناعة، لأنّ مخرجاتها إن لم تقبلها سوق العمل فستتحوّل الجامعات إلى رافد كبير من روافد البطالة، لأنّها تقدّم تخصصّات ليس لسوق العمل بها شأن ولا حاجة. فإذا كانت الجامعات في الماضي تُعدّ الخريجين لتستقبلهم الوظائف الحكومية، فإن سوق العمل لن تحرص على توظيف خريجي الجامعات بطريقة ضمان الوظيفة كما ضمنتها قطاعات الدولة حقبة من الزمن قبل أن تحقق الاكتفاء، وتسدّ عجزها. وجامعتنا تشمل تخصصّات لا تطلبها سوق العمل بمفهومها الاقتصاديّ الاستثماريّ، ولكنّها تطلبها الهويّة المتعلّقة بالمحور الأوّل ذي العمق الإسلاميّ والعربيّ، ويطلبها الوطن باعتباره قبلة المسلمين، ويطلبها الإنسان باعتباره هو الثروة الغالية التي يستثمرها الوطن، ويستثمر فيها كلّ معطياته. والمشكل التراكميّ هنا هو أنّ التخصصّات التي تعزز الهويّة لن تجد في سوق المال والأعمال مجالا مناسبا لها تعمل فيه، ولن تستقبلها سوق العمل لتشغّلها في معاملها ومصانعها. وأمّا من يرى أنّ سوق العمل تشمل وظائف خارج دائرة الاستثمار والاقتصاد فهو يحسن الظن بالاستثمارات ويحسبها ستوجّه رؤوس الأموال لقطاعات غير ربحية، وهيهات. إنّ الوطن هو الإنسان، والهوية، والمكان. والإنسان بلا هوية هو إنسان بلا وطن، والمكان الذي لا يندمج في الهوية هو كغيره من الأماكن؛ ليس له نصيب من معاني الوطنيّة وقيمها الروحيّة، ومتى كان الوطن هو الهويةّ فسيكون الإنسان حينئذ أكثر امتزاجا بالمكان، وأشد حبا له. وإنّ وطنا هو في حقيقته عمق الإسلام والعروبة لن يتخلّى إنسانه عن هويته المتشرّبة لخصوصيّة هذا العمق. وبناء على هذا فإن التخصصات المتعلقة بالهوية ستبقى متأصّلة في نفس الإنسان المنتمي لهذا الوطن، فإذا اتّجهت الأموال والأعمال وسوق العمل لتخصصّات تنمّي بها استثماراتها، فإنّ التخصصّات التي ترسّخ الهويّة وتحفظها _وهي التخصصّات الشرعيّة، واللغويّة، والتاريخيّة_ لن يتخلى عنها إنسان هذا الوطن لما لها من رسوخ إيمانيّ يتجاوز حسابات سوق العمل، فلو لم يجد مكاناً لاحتضان تخصصّه في سوق المال والأعمال، فلن يتخلّى عن توجهه لهذه التخصصّات المنتمية للهويّة. وليس من بدّ أن تكون قطاعات الدولة هي المسؤولة عن المحافظة على وفرة هذه التخصصّات، لما لها من عائد عظيم على هويّة الإنسان السعوديّ، وانتمائه، وتعلّقها التكوينيّ بعمق الوطن التاريخيّ، والحضاريّ، والدينيّ، ولكيلا تكون دوافع الإنسان السعوديّ الانتمائية مصدرا لتعزيز البطالة، أو أن يؤدّي إلى ما هو أكثر فداحة من ذلك وهو إغلاق بعض التخصصّات أبوابها لكيلا تخرّج من لا تحتاجه سوق العمل. إنّ التخصصّات المنبثقة من علوم هويّتنا هي من أسس بناء الإنسان سلوكاً وخلقاً، وهي من مقوّمات الاعتزاز بالوطن وإنسانه وروحيّة ثقافته، فالأمن، والانتماء، والتعايش الحضاريّ، والسموّ الأخلاقي مستودعةٌ في علوم الهويّة، بل الأعظم من ذلك هو أنّ هذه التخصصات هي المرجع للمنهجية الدينيّة التي هي عمقنا الحقيقيّ، ومصدر قوّتنا، وخصوصيّة أنفسنا.