مما لا شك فيه ان لكل أمة مرتكزات ثقافية تميزها وتعتز بها وتعمل على المحافظة عليها لأنها تمثل كينونتها ومصدر فخارها وإنتمائها. ومن يفتقد ذلك العمق الثقافي يسعى لصنعه وإيجاده حتى ولو جاء ذلك من تحريف أو تطوير لأساليب وثقافات قائمة أو سرقتها ان صح التعبير. نقول ذلك لأن الهوية العربية والثقافة العربية يتعرضان لحرب شرسة صريحة ومبطنة هدفها إلغاء الإنتماء واضاعة الهوية وهذا يتم على عدة محاور منها الإعلامي ومنها الاستهلاكي ومنها الإعلاني ومنها تبني صريح للأسماء والمصطلحات الأجنبية على اختلافها ناهيك عن استخدامها في التحدث وتسربها إلى أسماء المحلات والمراكز التجارية والمعاملات وغيرها. وهنا لابد من الإشارة إلى ان تعلم لغة الآخرين والاستفادة منها أمر مرغوب بل مطلوب وهذا ليس محل نقاش أو جدال.. بل ان معرفة لغة الآخرين وفهم ثقافتهم يعتبر أمراً في غاية الأهمية لبناء جسور التواصل والحوار. وفي نفس الوقت العمل على ترسيخ الثقافة الوطنية وحمايتها من التآكل والاندثار والتشويه ذلك ان الوطنية بنت للإنتماء والإنتماء ابن للهوية والهوية بنت للثقافة والثقافة حفيدة فعاليات إنسانية متعددة. لذلك فإن الثقافة هي المعيار الذي تتحدد به هوية المجتمعات ومن ثم الأمم ولهذا لا يمكن ان نتخيل وجود مجتمع بلا هوية ثقافية تميزه. ان الهوية الثقافية هي المركب الذي يشتمل على المعرفة والمعتقدات والفن والسلوكيات والقانون والعرف ويدخل في ذلك القدرات والسلوكيات التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع. كما ان تلاقح الثقافات من خلال الانفتاح على الآخر والحوار معه والأخذ من ايجابياته وتبادل المنافع معه يعتبر عملاً في غاية الأهمية وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمك عند الله اتقاكم) الآية.. كما ان نقد الذات نقداً ايجابياً يتمثل في تحديد السلبيات وتحجيمها ومعرفة الايجابيات وتطويرها من أهم العوامل التي تساعد على إثراء الثقافة وتوسع مداخلها ومخارجها. من هذه المنطلقات نجد ان تنمية الثقافة عبارة عن جهد وعمل مستمر الغرض منه نشر الوعي والاستنارة باتقان من أجل احداث تغيير ثقافي ايجابي يتمثل في احداث تغيير في أسلوب التفكير بحيث يصبح الإنسان أوسع افقاً وأكثر قدرة على التمييز بين الغث والسمين وأكثر تفهماً لآراء الآخرين وسلوكياتهم ناهيك عن كسر حاجز العزلة والتمسك بالعادات البالية. وهذا يعني ان التمسك بالهوية الثقافية وبسط أشرعتها لا يمثل دعوة إلى الانغلاق ولكنه يمثل تحفيزاً على خوض غمار المنافسة الشريفة التي تكون نتيجتها التفوق والنجاح من خلال جعل الصعب ممكناً والمعقد سهل المنال. من هذا كله تصبح الدعوة إلى تحصين الهوية الثقافية ودعم مقوماتها ومرتكزاتها وتوسيع الإنتماء إليها في قلوب الناشئة والشباب وعقولهم من أهم واجبات المؤسسات الأكثر تأثيراً في توجهات وإنتماءات الشباب، والمتمثلة في الإعلام والمدرسة والأسرة.. ان ترسيخ مفهوم الإنتماء العربي والإسلامي لا يمثل مفهوماً عرقياً أو عنصرياً بل يمثل هوية ثقافية موحدة ففي العروبة تلعب اللغة العربية دور المعبر عن الثقافة العربية والحافظ لتراثها وهي أيضاً اطار حضاري مشترك قائم على أطر القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية يثريها التنوع والتعدد والانفتاح على الثقافات الإنسانية الأخرى، ومواكبة التطورات العلمية والتقنية المتسارعة دون الذوبان أو التفتت أو فقدان التمايز لذلك فإن التعليم بمراحله المختلفة والإعلام بوسائله المتعددة والأسرة بحضورها الدائم من أهم الأوعية التي تزرع مبادئ الثقافة وبالتالي الإنتماء الذي يحدد بدوره درجة الهوية الثقافية ومدى عمقها وتبلورها وعليه فإن الاهتمام بتلك المؤسسات الثلاث وتعميق التكامل بينها يعتبر أمراً في غاية الأهمية لما تمثله فعالياتها من مرتكزات أساسية في بناء الهوية الثقافية العربية لدى كل دولة عربية منفردة ولدى الدول العربية مجتمعة خصوصاً ان اللغة العربية تمثل وعاء حاوياً للجميع وهي لازالت لغة حية قابلة للتجدد والتطور لو حميت من عمليات التمييع والمسخ والتجريف من قبل عدد كبير من الفعاليات يأتي في مقدمتها تبني الأسماء والمصطلحات الأجنبية بصورة ملفتة للنظر إلى درجة ان بعضاً منها أصبح يستخدم بديلاً للأصل في الإعلام والتحدث وفي الإرشاد واللوحات الإعلامية والإعلانية. إن عدم أخذ قوة الثقافة بالحسبان كان من أهم العوامل التي أدت إلى تخلف دول العالم الثالث عن ركب الحضارة والتقدم المتسارع ولهذا فإن مؤتمر منظمة اليونسكو الذي عقد عام (1990م) قد كان من أهم توصياته: الحث على الاهتمام بالبعد الثقافي والاعتراف به وأخذه بعين الاعتبار في إطار عمليات التنمية لأن ذلك يعتبر توثيقاً للهوية الثقافية وتوسيعاً لقاعدة المشاركة في الحياة الثقافية ودعماً للتعاون الثقافي بين الأمم لهذه الأسباب مجتمعة ومتفرقة دأبت الأمم والشعوب المختلفة على التمسك والاعتزاز بثقافتها وتاريخها وتراثها والعمل على إبراز عناصر الجودة والتفوق لديها. كما أنها ظلت تبذل قصارى جهدها من أجل المحافظة عليها وضمان توريثها للأجيال المتعاقبة لتظل الشعلة مضاءة. وهذا يتم من خلال التوثيق والقصص والروايات والمسرح والتصوير والأفلام والمتاحف والمحافظة على الآثار ناهيك عن دور التعليم والإعلام. كما ان للسياحة دوراً بارزاً في تعميم انتشارها وزيارة مراكزها والاهتمام بالمفردات التي تعزز من تواجدها نعم لقد ظل الصراع بين عناصر التحديث وعناصر الانغلاق عقبة كأداء تعيق التقدم والانطلاق نحو آفاق ارحب فالحديث أمر مطلوب والتمسك بالهوية الثقافية دون الانغلاق عليها أيضاً أمر مطلوب لذلك فإن التوازن بينها يصبح واجباً.. من هذا المنطلق نجد ان الدول التي خاضت تجربة التحديث والتصنيع والانفتاح وضعت نصب عينيها الموائمة بين ذلك وبين المحافظة على الهوية الثقافية لكيانها وذلك منعاً من ان تذوب في اللا معلوم.. ولعل اليابانيون خير مثال على من حافظ على ذلك التوازن الفريد بين التحديث والتصنيع والانفتاح دون المساس بهويتهم الثقافية المميزة لهم. وبما ان الهوية الثقافية هي الأساس في عملية الإنتماء والمواطنة نجد ان من لم يكن له هوية ثقافية محددة يسعى إلى صنع تلك الهوية وإيجادها ولعل خير مثال على ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية فهي دولة حديثة فعمرها لا يزيد على (233) سنة وشعبها يمثل خليطاً من مجموعات مهاجرة من جميع أنحاء العالم ولذلك كان لزاماً على تلك الدولة الحديثة ان توجد هوية ثقافية خاصة بها تجمع ذلك الاختلاف في بوتقة واحدة توحد الإنتماء وتعزز الوحدة. وقد فعلوا ذلك من خلال فعاليات عديدة يأتي في مقدمتها التعليم والإعلام والفن والمال وقبل ذلك وبعده سيادة القانون وممارسة الديمقراطية في ظل الدستور. نعم لقد كان للإنتاج السينمائي من خلال مؤسسة هولي وود التي تمثل مركز تصوير وإنتاج للبرامج والمعرفة والسياسة والأفلام الموجهة والتي تركز كثيراً على عنصر التفوق الأمريكي وبالتالي نزرع حب الإنتماء والافتخار بالهوية الثقافية الموحدة. أما المثال الآخر للدول التي لم تكن تملك هوية ثقافية فهو إسرائيل فشعبها جمع من مختلف بقاع العالم ولكل مجموعة منه ثقافة مختلفة عن الأخرى لذلك كان لابد من صنع ثقافة وطنية لكي تنتمي إليها تلك المجموعات البشرية التي جمعت من الشتات. وقد تم ذلك على مسارين أحدهما إحياء ثقافات يهودية مندثرة والآخر سرقة هوية وثقافة المكان وأصحاب المكان الذي تم الاستيلاء عليه بالقوة. أما إذا عدنا إلى عالمنا العربي فإننا نجد معاول الهدم والتهميش ومحاولة إلغاء التميز والتشكيك في كل ما يتعلق بتاريخ العرب والمسلمين وحضارتهم يتم تشجيعها ونشرها بأساليب وطرق مختلفة وذلك من أجل اجهاض الهوية الثقافية لهذه الأمة ولعل ما يقوم به الإعلام من دور وتقاعس التعليم عن دوره المأمول وانحسار دور الأسرة قد عزز من قوة الاختراق ولعل من أبرز وسائل الاختراق زراعة ثقافة الانبهار بما لدى الغير من غث يُلبس ثوب سمين واحتقار ثقافة الذات وأصولها الايجابية ومن المؤسف ان عوامل الهدم هذه يحملها البعض إما لجهل أو عن سبق تعمد واصرار. إن عدم الاستفادة من الوقت أو قتله في غير المفيد من خلال الاستخدام السلبي لوسائل التقنية الحديثة حيث يتم استعمال قشور التقنية دون جوهرها وماهيتها بالإضافة إلى تفشي ثقافة السحر وتفسير الأحلام والعمل على إثارة النعرات الطائفية والعصبية والعرقية كلها عوامل تثبط وتجر الأمة إلى الخلف لا إلى الأمام. نعم لقد وجد من يسوق لهذه الأجندة من أبناء الأمة الذين إما أنهم انبهروا بثقافة الغير وأخذوا بمقولة الشفافية بسلبياتها دون استعمال ضوابطها المستمدة من ثقافة الأمة وتركيبتها النفسية والاجتماعية ليجعلوا منها معول هدم يقوض به كل مصدر فخر تعتز به الأمة وتنتمي إليه. لذلك فإن التعري الثقافي وجلد الذات والقدح بالمسلمات والتاريخ المشرق لهذه الأمة ليس شفافية بل هو استهداف للهوية الثقافية خصوصاً ان الطرح ليس ايجابياً لأنه يركز على السلبيات ويتناسى الايجابيات. وفي الحقيقة لقد طال التشكيك وإساءة استخدام المصطلحات والشعارات وقدح الإنتماء للوطن واللجوء إلى التدليس والتلبيس والقدح كل أطراف الثقافة العربية مما أفرز تطرفاً على جانبي المعادلة. إن التسلح بالمعلم والمعرفة كوسيلة وغاية لحماية وتعزيز الهوية الوطنية واستخدام العقل والمنطق من أجل احداث نهضة ثقافية تجمع ولا تفرق شعارها الانفتاح والحوار والتكامل في الداخل والخارج هو الفيصل في صنع مستقبل أفضل لهذه الأمة. وذلك لأن الشعوب العربية وليس الحكومات هي العمق الاستراتيجي لكل دولة عربية. وهذا يجعل الاهتمام بالهوية الثقافية العربية وحمايتها من التمييع والتضييع هو الأساس في حماية التضامن العربي ولو على أساس شعبي أمر في غاية الأهمية لأن الشعوب أطول عمراً وأكثر قدرة على منع الهجمة الصهيونية الشرسة على أرض واقتصاد وإنسان وثقافة هذه الأمة. وفي هذا الصدد لابد من الإشارة إلى ان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - قد أدرك أهمية تحصين الهوية الثقافية العربية وتعميق روح الإنتماء العربي ونشر ثقافة الاعتدال والتسامح والحوار والانفتاح ورفض كل أشكال الارهاب والغلو والتطرف والتوجيهات العنصرية الاقصائية وتنمية الحوار وفق رؤية عربية موحدة وهذا يعكس إنتمائه العروبي المسلم الذي يبذل كل ما يستطيع للرفع من شأن هذه الأمة ومكانتها في كل المحافل والمناسبات. وذلك انطلاقاً من إيمانه بدور المملكة حكومة وشعباً بأنها بيت العروبة الدافئ ومنبع العرب ومهبط الوحي ومنطلق الرسالة ومهوى أفئدة المسلمين ناهيك عن توازن سياسات المملكة الداخلية والخارجية. وقوتها الاقتصادية وانفتاحها على العالم والدعوة إلى الحوار كأساس لحل كل خلاف. والله المستعان،،،