حتّم التلفزيون كجهاز للترفيه على المشاهدين أن يكونوا أسرى له، فلا هم يفارقونه وفي ذات الوقت مستسلمين لكل طلباته مهما كانت، حتى وإن طُلب منهم القتل في برامج تلفزيون الواقع، ولهذا جاء استعمال التلفزيون في الترفيه لملء أوقات الفراغ، وبالتالي تعامل الجمهور مع التلفزيون لسد ثغرة الفراغ، ونشأت المشكلة ما بين الْمُتْخَم برأس المال وَالْمُتَخّن من الفقر، فالأول يروج للمجتمع الاستهلاكي وثقافته، والثاني لا يجد ما يسد به حاجته ومغبون في وقت فراغه فلجأ إلى الفساد التلفزيوني بديلاً. ومع دخول الفضائيات الغرف الخاصة بعد أن كان وجودها حكراً على الصالونات، دخلت أشكال مختلفة مبهرة ومتناقضة من ناحية برامجية، عقدت حتى أساليب التنشئة الأسرية، لأنّ أغلب المعروض فضائياً برامج استهلاكية لحاجيات وهمية تكرِّس قيماً لا تتفق مع أدنى المعايير الاجتماعية والقيمية والدينية. هذا العدد الهائل من القنوات الفضائية لا يؤدي وظيفته الرئيسية التي حددتها أدبيات اليونسكو في تعامل وسائل الإعلام كمؤسسة اجتماعية في تعاملها مع الجمهور، تساهم في تشكيل الوعي الاجتماعي، وبناء رأي عام إيجابي، ونشر الثقافة والمعرفة في مختلف المجالات، والمساعدة في التواصل الاجتماعي والسياسي، وصولاً إلى تعزيز قيم المجتمع للرقي بأخلاقه وقيمه الإنسانية عالمياً، بل على العكس تكرِّس المضامين الدونية بلغة مثيرة تجد القبول عند متابعي الفضائيات. وفي الحالة الراهنة للفضائيات العربية انتشرت أخبار الفن ومجلات التلفزيون وبرامج التوك شو التي تقدم الرديء، وغابت القيم الإيجابية التي يمكن الاستفادة منها للرقي المجتمعي، وأصبح الإعلام وسيلة لترويج قيم السوق للمستهلكين، بعد أن تحولت وظيفة التلفزيون من الترفيه إلى التقليد الممسوخ. وإن كان الفساد هو الاستثناء فإن القبول به أصبح يحظى بنوع من الإعجاب، وأصبح للفساد الإعلامي أسس وقواعد منظمة ضربت بعرض الحائط كل قيمة وأخلاق تحت عدة مبررات وتحت قاعدة فسادي أهون من فساد الآخرين، والكل في هذا الإطار يرى أنه ملاك والآخرين شياطين!! وكال يقول أحد محللي ظاهرة ثقافة الفضائيات، لقد أنتجت هذه الثقافة بديلاً عن الأخلاق التي كانت سائدة إلى نهاية عصر الثمانينيات، وبديلاً عن القيم الأخلاقية التي كانت موجودة آن ذاك، وأنتجت قيم وأخلاق ما يُعرف باقتصاد السوق التي ترى أن الإنسان من أجل أن يملأ رصيد بطاقته الائتمانية التي تتيح له الشراء، عليه أن يكسب المال من أي جهة ما دام في الظاهر لا يخالف القانون ولا يرتكب محرماً!!، هذا الكسب يلغي الضمير وهو كسب لا معنى فيه للحرام والحلال. ويبرر للمشاهد متابعة أي برنامج، بعد أن أصبح التلفزيون فرداً من أفراد العائلة. فعاش المتابع النهم مع التلفزيون من أول نهاره إلى آخر ليله كجزء أصيل من عائلته بشخصياته وبرامجه، فالعامل المشترك ما بين متابع وآخر لبرامج التلفزيون شخصية البطل أو البرنامج الذي أدمن مشاهدته، فالجميع لهم نفس الحكاية ونفس البطل والقصص الخاصة التي يشتركون فيها، ولا مانع من إسقاط همومه وتوهماته على الجهاز معتقداً أن الصندوق الأسود مبالي لمصيره. والجمهور المتوهم يحلم ويحلم معتقداً أنه البرنامج وبطله المفضل يلتفت إليه، كونه يعكس هموم يتلظى بها وحده، وتعلق بها بعد أن تقمصها بطله المفضل، وللأسف فإن الممثل أو المقدم إنّما يتماهى مع عموم المشاهدين ليقدم لهم قصص وأحلام وهمية لا تمت لواقعهم بأي صلة. وفق هذا؛ استحضر الرصد الإعلامي الذي تقوم به الجمعية العربية للمسؤولية الإعلامية وبدأ منذ عام 2012 ولن أستعرض الكثير من التفاصيل، لكن إشارة على ما ينتشر بكثرة في الفضائيات العربية وهو (التدخين والمخدرات والكحول) فقد بلغ عدد مشاهد التدخين في العام 2012م 356 مشهداً ثم في العام 2013م، 1314 مشهداً وفي عام 2014م، 719 مشهداً ثم في العام الحالي 1227 مشهداً. والمخدرات في العام 2012م بلغت 33 مشهداً ثم في العام 2013م، بلغت 59 مشهداً وفي عام 2014مم، بلغت51 مشهداً ثم في العام الحالي 197 مشهداً. أما الكحول فقد بلغت في العام 2012م، 111 مشهداً ثم في العام 2013م، 215 مشهداً وفي عام 2014م، بلغت249 مشهداً ثم في العام الحالي 334 مشهداً. ما سبق يؤكد أمراً، وهو أن ما يتم في الفضائيات العربية؛ يتم بقصد وترصد تام للمجتمعات العربية ومن يقوم به هم أصحاب مصالح خاصة من شركات إنتاج ومُلاك فضائيات ارتبطوا بعلاقات وثيقة مع إبليس لعزل المجتمع عن قيمة وأخلاقه بحجة نقل الواقع مع العلم أن نُقاد الدراما العربية يؤكدون أن الواقع ليس مبررا أبداً للإسفاف وإن كان حافلاً بالتشوهات وبالسخافات فليس من حق الدراما أن تعكسها بصورة مبالغ فيها. [email protected]