"أهلاً شلونك وشخبارك نادين.. أشوفك متألقة اليوم مشا الله.. وش مسابقتكم؟!"، ترد نادين بدلع ودلال واضح: أهلاً بناصر من السعودية.. شوف يا ناصر مسابقتنا زريفة وحلوة ومهدومة كتير.. وسؤالنا هوي: أرنب زعلان ليش؟"، يضحك ناصر بلهفة متسائلاً: "والله مدري.. بس ما في خيارات الله يخليك يا نادين، والله لي ساعة ونص وأنا أنتظر على التلفون علشان أكلمك.. تكفين"، بغنج زائد هذه المرة ترد نادين: ي ي ي ش القصة.. بلييس ما بئدر ساعدك اتصل مرة تانية بلكي تربح معنا.. كسبنا سماع صوتك".. مثل هذه المكالمة التي كلفت ناصر من السعودية ( 450ريالاً) لمجرد سماع صوت نادين وحل لغز الأرنب الزعلان تتكرر في أكثر من قناة فضائية عربية على مدار الساعة، وأقل ما يمكن أن يقال عنها إنها برامج مسابقات (سخيفة) ومملة في أسئلتها ورخيصة وإيحائية في تقديمها وانتهازية في مفهومها التجاري.. فلم تترك بعض هذه القنوات مجالاً من مجالات الإثارة والتسطيح والاستغلال المالي إلا وطرقته، بل وفتحت له أبواباً واسعة للاتصالات مع الجمهور السعودي من صغار السن والمراهقين والسذج الذين من ممكن أن يضحي الواحد منهم بميزانيته الضئيلة و(يلطع) ساعة ونصف على الهاتف لمجرد أن يتحدث مع نادين وغيرها، وأمنيته أن يسمعها تنطق باسمه (للمعلومية دقيقة الاتصال الواحدة تكلف خمسة ريالات)!! فما هي حكاية هذه المسابقات التي تكاثرت وتنوعت واختلفت لتتفق على هدف واحد سرقة أموال الناس برضاهم دون أن تقدم للمجتمع فائدة فكرية أو ثقافية أو معلوماتية.. لكي نفهم الحكاية فلنبدأ من البداية.. تشير كثير من المصادر الإعلامية العربية أن بداية ظهور برامج المسابقات ارتبطت بظهور الإذاعة في بعض البلدان (سوريا، مصر،العراق، ولبنان) وكانت جلها متخصصة في أسئلة الثقافة والمجتمع وتعزيز الانتماء والوطنية والفكر والشعر العربي والمعلومات العامة الجادة، وبعد أن دخل التلفزيون العربي على خط المسابقات ظهرت المسابقات المنوعة التي كانت بسيطة في مفهومها وفي تقديمها فهي عبارة عن طرح أسئلة معلوماتية متنوعة للجمهور (خصوصاً في شهر رمضان) ويتلقى البرنامج الرسائل البريدية لتعلن أسماء الفائزين في نهاية الشهر، وعلى سبيل المثال فوازير رمضان في التلفزيون المصري، ومسابقات الشعر النبطي وبرامج الأطفال (ماما أنيسة) في تلفزيون الكويت، وفوازير الأطفال في التلفزيون السعودي.. الخ.. واستمرت المسابقات التلفزيونية العربية فترة من الزمن لتظهر لنا بشكل جديد بعد البث الفضائي الموسع وتأسيس القنوات الفضائية العربية الخاصة التي أسهمت في تطور برامج المسابقات تنظيماً وتقديماً وتنوعاً رغبة في جذب الإعلانات التجارية. وأخذت القنوات اللبنانية زمام المبادرة لتبرز كعادتها بتقليد البرامج التافهة واستنساخ المسابقات المنوعة الأجنبية وتعريبها بعد إضافة جرعات جريئة سحرت صغار السن والمراهقين ممن يتصلون خلسة عن آبائهم، وكذلك المتصابين ممن يتصلون ليلاً بعيداً عن أعين أولادهم وزوجاتهم. وترشيح المتسابقين والمتسابقات المفضلين لديهم والتي كلما زادت ضراوة المنافسة زادت أرباحها المالية الضخمة وانتفخت جيوب أصحاب القنوات وشركات الاتصالات ولاسيما أن فكرة الرسائل والتصويت أثبتت أنه استثمار مغرٍ وغير مكلف. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي صاحب بداية هذه المسابقات الفضائية إلا أنها لم تظهر بالشكل المفيد والمتوقع فقد ظهرت متشابهة ومستنسخة من بعضها البعض وغالبيتها لا يحمل فكرة إعلامية أو رسالة اجتماعية أو معلومة ثقافية جيدة أو مميزة، بل إن غالبها تركز على استقطاب أكبر عدد من رسائل ٍََّّ من المشاهدين وإغرائهم بالجوائز لإرسال المزيد من الرسائل الفارغة مدفوعة الثمن. أكثرهم مشاركة وأقلهم فوزاً ولأن الشيء بالشيء يذكر فعندما يعيش الإنسان في واقع فكري سطحي محدود لا يتجاوز تحقيق الملذات فلا تستغرب إن أقدم المنتمي لهذا المحيط الضحل على خسر ماله وأحياناً كرامته لمجرد سماع صوت مقدمة برنامج أو الحديث لثوانٍ مع مذيعة حسناء في قناة أخرى.. وللأسف الشديد بعض السعوديين هم من أكثر الأفراد مشاركة في المسابقات الفضائية السخيفة والمملة، وأكثرهم اتصالاً وتواصلاً ومعرفة بها وبمذيعيها، والطريف أيضاً أنهم الوحيدون الذين لا يفوزون بالمسابقات أبداً ربما إدراكاً من معدي هذه المسابقات أن غالبهم لا يبحث عن الربح أو كسب الجائزة بقدر ما يسعى لسماع أصوات نسائية عذبة ورؤية وجه أنثوي جميل حتى وإن أدى ذلك لخسارة مالية كبيرة.. وإن كان هذا كوم فإن المسابقات الفضائية الشعرية التي ابتلينا بها مؤخراً هي كوم آخر.. فبين رسالة جوال متعصبة لوطن، ويظهر لنا تصويت فزعات قبلية على الإنترنت، ويزعجنا شريط رسائل مبتذل أسفل الشاشة تحتفي بعض القنوات الفضائية بما مجموعه (3) ملايين ريال يومياً - حسب إحصاءات غير رسمية - يضخها السعوديون وحدهم في جيوب أصحاب القنوات الفضائيات (الخليجية) وشركات الاتصالات المحلية والعربية والإقليمية التي لم تقدم للمجتمع حتى الآن ربع ما تربحه من ملايين الريالات. وسيلة تمويل واستثمار لقد أصبح من المألوف لدى الكثير من القنوات الفضائية تضخيم حجم الإغراءات لجذب أكبر عدد من المتفاعلين معها، من خلال اللعب على رغباتهم ودوافعهم بغرض استنزاف أموال المتسابقين واستمرارهم في الاتصال أكثر من مرة ولأطول فترة ممكنة؛ والتي لا تقل عن 6دقائق في بعض البرامج، فضلاً عن محاولة إقناع المتصل بتكرار التجربة لتتاح له فرص الربح أكبر لتنتهي المكالمة بستة دقائق بإجمالي يصل إلى أكثر من 20ريالاً أو أكثر، وفي أحيان تتجاوز قيمة الاتصالات مبلغ 400ألف ريال في اليوم الواحد في بعض الفضائيات العربية الكبرى. مما يدل بشكل قاطع أن بعض الفضائيات العربية تعتمد على برامج المسابقات كوسيلة للتمويل والاستثمار، بل إن بعض الآراء ذهبت إلى أن برامج المسابقات أصبحت بمثابة طوق النجاة للعديد من هذه الكيانات الإعلامية الهشة، خاصة في ظل محدودية مصادر تمويلها الذاتية. ظاهرة غريبة إن رواج مثل هذه المسابقات التي لا تحمل فائدة من أي نوع للمشاهد تعد ظاهرة غريبة تجتاح المجتمع العربي، والأغرب أن نسبة كبيرة من الجمهور تعلم جيداً أن هذه المسابقات ما هي إلا لعبة تجارية للحصول على الأموال، ومع ذلك يسرفون في إرسال الرسائل ويخسرون بمنتهى الأدب(!!) لأنها تداعب أحلام البسطاء والسذج وتغريهم بالثراء السريع والفوز بالملايين من خلال ضربات الحظ العشوائية. إلا أن الغريب في هذا الموضوع هو أنه وعلى الرغم من معرفة جمهور المشاهدين بصعوبة الفوز وتحقيق الربح إلا أن هذه برامج المسابقات تغلغلت في المجتمعات العربية بشكل كبير، وتشير عدد من الإحصاءات العربية التي عملت في الفترة الماضية إلى أن هذه البرامج هي الأعلى مشاهدة في بعض الدول خاصة في ظل عرضها في أوقات مناسبة للمشاهدين، وفي هذا الجانب كشف استطلاع لمركز بحوث الرأي العام بكلية الإعلام جامعة القاهرة تم إجراؤه في أكتوبر 2005م حول نسب مشاهدة القنوات التليفزيونية والفضائية خلال شهر رمضان 2005م، أن نسبة مشاهدة برامج المسابقات خلال هذا الشهر بلغت 37.5% من العينة، منهم 18.7% يشاهدونها بصفة منتظمة في شهر رمضان وغيره من الأشهر، و13.4% أحياناً و5.3% نادراً. كما تشير إحصاءات - غير رسمية - إلى أن ما ينفقه السعوديون وحدهم على رسائل ٍََّّ المرسلة للقنوات الفضائية تتجاوز ثلاثة ملايين ريال يومياً. من سيربح المليون والمليونين: وعلى الرغم مما تقدمه بعض القنوات الفضائية من برامج مسابقات ردئ في مضمونه إلا أن هناك برامج مسابقات ذات فائدة عالية ثقافياً ومادياً حظيت بمتابعة جماهيرية لما تطرحه من معلومات ثقافية تثري المشاهد.. لعل أبرزها برنامج (من سيربح المليون) الذي يعد أكثر برنامج مسابقات عربي حظي بالمتابعة والمشاركة؛ وهو طبعة عربية مستنسخة عن برنامج بريطاني تم شراء الحق الحصري له في العالم العربي من قناة ٍقك وحسب مصادر إعلامية فإن القناة المعدة له ضمنت عوائد من المعلنين والرعاة الرئيسين بقيمة عشرة ملايين دولار للحلقات الأربعين، كما أنها تحقق دخلاً مقداره دولار عن كل اتصال يجريه مشاهد، وهذه الاتصالات تتجاوز المائة ألف اتصال في أيام بث الحلقات أو بعدها مباشرة، وتهبط إلى متوسط لا يقل عن 20ألفاً في الأيام الأخرى، واعتمد نجاح البرنامج وجاذبيته على وعد بالمليون أو بالمليونين مقابل فائدة ثقافية للمشاهدين ومالية للمشاركين. شاعر المليون وفي مسابقات الشعر الشعبي يبرز برنامج المسابقات الشعري (شاعر المليون) الذي حقق النجاح والمتابعة وتشجيع الإبداع الشعري وتقديم شعراء جدد للساحة؛ وهذا النجاح غير المسبوق يجعلنا نتعجب مما يطرح في هذا البرنامج من مضامين وقيم لا تمت لنسيجنا الاجتماعي ولا لتقاربنا كمجتمع خليجي لا من قريب ولا من بعيد، فغالب ما يطرح يعيدنا لقيم العصبية التي كانت قبل الدول الحديثة عبر تفعيل (الفزعات) لدى البعض والنعرات الجاهلية والاصطفاف القبلي، والمأساة الكبرى أن القائمين على هذا البرنامج (مديرة البرنامج نشوى الرويني - مصرية) لم يستوعبوا - حتى الآن - ما للشعر الشعبي من مكانة خاصة وتأثير عميق في وجدان مجتمعات الخليج العربي وبالتالي قدرته الكبيرة على دعم الوحدة الوطنية والتقارب والتجانس الاجتماعي بينها، بل انحصر همهم في تحقيق الربح المادي الكبير (حقق البرنامج أكثر من 100مليون ريال أرباحاً صافية كما تشير بعض المصادر). مسابقات الشقق المغلقة إن ما يميز عام 2007م هو الزيادة الكبيرة في الفضائيات العربية والأساليب الجديدة في برامج المسابقات التي تعتمد على رسائل سحس؛ وبالتالي تحقيق أرباح عالية من دون الاعتماد على هدف إعلامي أو رسالة فكرية تخدم المشاهدين،حتى أن بعض القنوات الخاصة رفعت حدة سخونة ما تقدمه من إثارة رخيصة لم تتوقف عند طرح أسئلة (سخيفة)، بل تجاوزتها إلى جلب مذيعات لا يملكن من أبجديات الإعلام إلا عرض مفاتنهن لجذب اتصالات المراهقين واستغفال الطامعين في الجوائز، حيث ركزت غالبيتها على المسابقات والأسئلة التي تتحدث عن الجنس والعلاقات الاستثنائية بين الشاب والفتاة، وطرح أسئلة (تافهة) لتغطية ساعات بثها خاصة بعد منتصف الليل دون مراعاة لمستوى الطرح الفكري والثقافي والاجتماعي، ومن المفارقات أن تجد مذيعة جميلة لكنها ساذجة تطرح أسئلة غاية في البلادة والإيحاء الجنسي والميوعة الرخيصة بحجة الترفيه عن المشاهد، علماً أن تصوير غالب هذه البرامج يتم في شقق مغلقة. إن خطورة برامج مسابقات الفضائيات أنها تشغل المشاهد أكثر مما تفيده وغالبها تدور في دائرة مفرغة، ولم تتطور من حيث المحتوى لاستيعاب الموضوعات التي تساعد على تنمية شخصية الشباب وقدراتهم الفكرية والمعلوماتية وإبراز المواهب الشابة الثقافية والفكرية والشعرية والرياضية والمعلوماتية؛ والتي تنضح بها المجتمعات العربية.. فلا مانع أن تستفيد القنوات الفضائية مادياً فهذا من حقها لكن ما الذي يمنع أن تقدم ما يفيد المجتمع ويحافظ على قيمه وأخلاقه العامة وتسهم بجزء بسيط من المداخيل المالية العالية التي تجنيها وتتبرع بها للجمعيات الخيرية، وجمعيات رعاية الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة، وجمعيات الأيتام والأرامل حتى تستفيد شرائح المجتمع من هذه الإرباح الكبيرة جداً مما سيؤدي مع مرور الوقت إلى سمو الهدف ونبل الغاية.