يا فاطمة ما لي أحدثك فلا تسمعي لي؟! ردّت فاطمة: عذراً يا أسماء لقد كنت أفكر في نفسي غداً إذا أنا مت!! والله إني لأستحيي أن أخرج عند الرجال في وضح النهار ليس علي إلا الكفن!! فعَرَفَت أسماء ما أهمَّ فاطمةَ وحسّت بحيائها فأرادت أن تُذهبَ ما أهمَّ فاطمة وأحزَنها.. فقالت: ألا أضع لكِ شيئا رأيتُه في الحبشةِ؟ فَصَنَعت لها النعش المغطى من جوانبه بما يشْبِه الصندوق, ثم طرَحَت عليه ثوباً, فكان لا يصف الجسم. فلما رأته فاطمة قرّت عينها وانزاح همّها وفرحت به فقالت لأسماء: ما أحسن هذا وأجلَّه؛ سترك الله كما سترتني. لا عجب! فمن لَبِسَت العفافَ أَبَتْ نَزْعَه, ولا غَرو! هي من نسل الأعفاء.. هي فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم؛ تَعْزفُ نفسها عن التَكَشّف, وتطلبُ حياءً ما يعين على سترها ميتة!! فما بال الأحياء لا يستحون؟! قال ابن عبدالبر رحمه الله: هي أول من غطِّي نعشها في الإسلام على تلك الصفة. بالله عليكم أفي الميت فتنة؟! ولكنه الحياء حملها على ذلك لا خشية الفتنة.. رضي الله عنها تَرَبّت على الحياء من أبيها وأمها, وارتشفت طَعْمَه فاستعظمت بَسْقه.. فكانت منبعاً للحياء.. فعظم في نفسها أن تخرج من مَسْكَنِها محمولة على الأكتاف أمام الناس؛ لأنها اعتادت على خدرها؛ ليست بسلفع من النساء, ولم تكن خَراجة ولاّجة.. لا تصافح وجوه الرجال إلا في القليل النادر ولحاجة.. فكان من صميم هَمّها ستر نفسها حية وميتة.. فما بال الأحياء لا يستحون؟! وإن الحياء لهو الترياق لمن فقدت لذةً في عبادة, أو خشوعاً في صلاة.. فما بالنا في كل يوم نفقد شيئا من معالم الملابس الساترة؟! ليذهب في إثْرها شيء من الحياء!! خرج موسى عليه السلام إلى مدين خوفاً من فرعون وقومه, فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون, واسمع القرآن كيف يقص علينا أحسن القصص بأبلغ عبارة وأحسن أسلوب.. يقول الله جل وعلا في سورة القصص: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ..}. موسى عليه السلام لما سار تلك المسافة ترفعه أرض, وتخفضه أخرى رأى هؤلاء الناس قد اجتمعوا على بئر, ولفت نظره أن امرأتين تذودان غنمهما عن الماء, فبدأت أحداث القصة يقول المولى جلّ وعز: {قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إلى مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) }. فانظر إلى هذا الحياء كيف أجفى المرأتين عن سقي غنمهما حياءً.. لا عجبَ فلا مساومة على الحياء لمن ذاق طعْمَه.. فَبَعُدتا عن مواطن الاختلاط وقَطَعَتا أسبابه لذلك كانتا (تذودان) غنمهما مع حاجتهما إلى سقي الغنم.. ثم انظري أيتها العفيفة إلى اختصار كلام المرأتين مع الأجنبي عنهما (موسى عليه السلام) حينما قالتا: { لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ }. يا الله.. كم تَحْمل هذه الجملة من إجاباتٍ لأسئلةٍ كثيرةٍ اختصاراً للكلام مع الأجنبي.. فاشتملت إجابتهما على سببِ ذودهما الغنم, وعدم سقياهما, ومتى يسقيان, ولماذا لم يأت وليهما يسقي بدلاً عنهما؛ فدفعاً لهذه الأسئلة كلها, ولأجل فلّ كيد الشيطان, وقطع تسلسله واستدراجه.. قطعاه بهذه الجملة.. ومن حيائهما لم يأتيا إلى هذا الأجنبي ولن يأتيا لو لم يأت هو عليه السلام.. ولو تأملنا أحداث القصة لوجدنا أن موسى عليه السلام لم يقل للمرأتين إلا (ما خطبكما؟), كلمة واحدة, ولما التقى أبوهما فتح الكلام وأفاض وأطنب بل (وقص عليه القصص), وفي هذا دلالة على الإطالة.. فإلى الرجال إلى كل رزين وزين.. أَوْجِز حَديثك مع النساء ما استطعت إلى ذلك سبيلا.. وإلى كل حصان طاهرة لَخّصي ما تريدينه ولا تسرفي في الحديث مع كل أجنبي.. لمّا انتهى موسى عليه السلام من خدمة المرأتين.. ذهب إلى الظلِّ ليشكر ربه ويعترف بفقره.. وتتكرر مظاهر ومعالم الحياء مرة أخرى في أحداث القصة لمّا جاءته إحداهما يقول الله جلَّ الله: { فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)}. فلم تخرجا جميعاً في طلب موسى عليه السلام بل خرجت إحداهما لأن الواحدة تفي بالغرض.. (تمشي على استحياء) حتى في مِشيتها لم تتخلّ عن الحياء لازَمَها في تحركاتها وسكناتها.. (إن أبي يدعوك) فلم تنسب لنفسها الكلام وهذا من كمال حيائها.. (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) فجاءت بصفات الأجير الناجح؛ وهذ حياء في ألفاظها.. الموقفان السابقان يبيّنان لنا حياء المرأة في نفسها, وفي تعاملها مع الآخرين.. فهذه فاطمة رضي الله عنها شقَّ عليها خروجها بالأكفان في وضح النهار محمولة على الأعناق, فأي حياء تحملين يا بنت محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن أخواتنا اليوم من تخرج إلى السوق إلى منجم الشر, ومغرس الفتنة, وعَرَصَة الغي؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها) [رواه مسلم]. فهي الأماكن التي عشش فيها الشيطان وضرب فيها قبابه.. تخرج متكشفة مظهرة زينتها متجردة من حيائها – كنز حياتها – متنكبة عن خطى فاطمة وعائشة رضي الله عنهما.. حادت عن طريق الصالحات.. وأغْضَبت ربَّ البريات.. خُذيها يا بنت الأكرمين, وأنتم يا أبناء نسل بيعة قدمت لله تحت الشجرة خذوها وعوها لتُرسّخ لكم أهمية هذا الخلق خلق الحياء.. فعن سعيد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه قال: إن رجلا قال يا رسول الله: أوصني. قال: (أوصيك أن تستحي من الله – عَزَّ وجَلَّ – كما تستحي رجلا من صالحي قومك). [ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة]. وهو من شعب الإيمان فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان). [رواه البخاري ومسلم]. (ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه, ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه), وقال أبو بكر رضي الله عنه وهو يخطب بالناس: (يا معشر المسلمين: استحيوا من الله فوالذي نفسي بيده إني لأظَلُّ حين أذهب الغائط في الفضاء متقنعاً بثوْبِي استحياء من الله عز وجل). [مكارم الأخلاق لابن أبي الدنيا]. قال ابن القيم رحمه الله: (الحياء الذي هو الاستحياء مشتق من الحياة, ومن ذلك أيضا: الحيا للمطر, لكنه مقصور, وعلى حسب حياة القلب, يكون فيه قوة خُلُق الحياء, وقِلَّةُ الحياء من موت القلب والروح, فكلما كان القلبُ أحيا كان الحياء أتم). [مدارج السالكين 2/ 270]. والحياء لا يأتي إلا بخير يقول ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة ما مضمونه: (وخلق الحياء أفضل الأخلاق وأجلها وأعظمها قدراً وأكثرها نفعاً, بل هو خاصة الإنسانية, فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتها الظاهرة, كما أنه ليس معه من الخير شيء). وإياك والمعاصي فإنها تُذهب الحياء ولا تبقي منه إلا اسمه يقول ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء: (من عقوبات المعاصي ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب, وهو أصل كل خير وذهابه ذهاب الخير أجمعه فقد جاء في الحديث الصحيح "الحياء خير كلّه". والمقصود أن الذنوب تضعف الحياء من العبد, حتى ربما انسلخ منه بالكلية حتى إنه ربما لا يتأثر بعلم الناس بسوء حاله, ولا باطّلاعهم عليه, بل كثير منهم يخبر عن حاله وقبح ما يفعل, والحامل له على ذلك انسلاخُهُ من الحياء, وإذا وصل العبد إلى هذه الحالة لم يبق في صلاحه مطمعٌ. وإذا رأى إبليس طلعة وجهه حيّا وقال: فَدَيْتُ من لا يفلح, ومن لا حياء فيه ميت في الدنيا شقي في الآخرة, وبين الذنوب وقلة الحياء وعدم الغيرة تلازم من الطرفين, وكلٌّ منهما يستدعي الآخر ويطلبه حثيثا, ومن استحيا من الله عند معصيته استحيا اللهُ من عقوبته يوم يلقاه, ومن لم يستح من معصيته لم يستح الله من عقوبته). وفي منتهى هذه المقالة أدعو أخواتي وكل مسلم إلى العودة إلى دينهم.. أقول لهم اغسلوا إساءتكم بالتوبة, وامحوا ذنوبكم بالاستغفار والرجوع إلى الله.. يا مسلمات تجنّبنَ عَرَصةَ الغي, وإن كان ولابد فالوحا الوحا, وَلْيكن مكثكنّ في الأسواق قدر حاجتكن.. وإلى من استفزها الشيطان بغروره, واستغواها بخدعه, واستهواها بكيده توبي إلى الله توبة نصوحا, واتركي التسكع في الأسواق فهي أبغض البقاع إلى الله.. لنوقف قرع الكعب.. وفي السوق كثر الصخب.. تحلّينَ يا حفيدات فاطمة وعائشة بالحياء في كل مكان في الأسواق, ومع أهلكن, ولِوَحْدِكُنّ استحيوا من الله جل في علاه, واستحيوا من الناس يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (من لا يستحي من الناس لا يستحي من الله). ولا تلهثنَ خلف ما يسمى ب(الموضة) فسيضنيكم التعب يحسبه الضمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً, فإن عدونا دَرَجَ بلادنا بسنابك خيله وغزانا في عقر دارنا, فكيف يُرَحّب بالعدو؟! الحياء الحياء يا مؤمنات في ذهابكن ومجيئكن, في ذهابكن للأسواق, وخروجكن منها, ومخاطبتكن الباعة.. وقللن مجيئكن إلى الأسواق ما استطعتنّ إلى ذلك سبيلا؛ فإن جمال المرأة في حيائها وعفتها.. أختي المسلمة احملي همّ حيائك وعفافك في حياتك وبعد مماتك؛ لتعيشي وتموتي عفيفة.. إن الحياء هو الثغر الذي تتحصن به المسلمة.. هو الحصن الحصين فلا تتسرب من خلاله رذيلة أو فاحشة, ولا تستباح محرمات ولا تدنس أعراض.. عنوان صلاح المرأة الحياء, وبرهان اعتزاز المرأة بدينها الحياء, هو تاج فوق رؤوس الأصحاء؛ يتمناه مرضى القلوب, ولكن هيهات لمرضى القلوب من علاج بدون أوبة إلى ربهم ورجعة إلى دينهم, أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم. حذار أن تلتفتي إلى كل رجل أثيم, أو امرأة سادرة في غَيّها؛ لا تسمعي إلى كل متهتك فاجر ينبح بأعلى صوته بأن الحجاب رجعية وعادة أخذناها من الأجداد.. بل هو دين وعبادة لله عز وجل.. أختي المؤمنة إياكِ والتبرج فإنه إثم عظيم ومعصية لله جل وعلا, والتزمي أمر ربك وأطيعيه تدركي النجاة, فإن حياء المرأة خير متاعها, وأجمل ما تتزين به في حياتها.. خير الشمائل للفتاة حياؤها *** وكذا الفتى بحيائه يزدان وركاز أخلاق الورى وأساسها *** خلق الحياء دعى له الإيمان
ولقلّة ما رأيته من مشاركة في هذا الموضوع, في مقابل تفاقم الأمر واشتداد ركنه, ارتأيت لزاماً أن أقدم النصيحة لأخواتي لعلّ الله أن ينفع بها وأن ينجيَ قائلها والقارئ, وهذا تَمَامُ الأمر, ولا أقول قد بلغت من النصيحة غاية لا متجاوَز وراءها, بل أتمنى من المشايخ والدعاة الكتابة في هذا الموضوع لأهميته, فقد شَجَينا بقليلي الحياء, وأرجو الله أن يغفر لنا ويتجاوز عن تقصيرنا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.