رحل الزعيم والمفكر الإسلامي المهندس نجم الدين أربكان الأحد 27 فبراير 2010 عن عمر يناهز 85 عاماً وفقاً لقناة "تي آر تي الرسمية التركية" بعد نزال مستمر قاده طيلة حياته ضد التيار العلماني الكمالي، وكان المهندس الفعلي للإسلام الحركي والسياسي في تركيا. ومثل صمود أربكان في وجه الحظر للأحزاب التي قام بتأسيسها ودخوله إلى السجون ووقوفه أمام العسكر مرحلة إلهام لتلامذته من بعده الذين كان أبرزهم رجب طيب أردوغان وعبد الله جول ليقوموا بعمل خارطة طريق جديد نسجوا على منوالها مشروع تركيا الحديث بقيادتهم لحزب العدالة والتنمية الذي غير وجه تركيا في الداخل والخارج. وكان الرجل استثنائياً في مقارعته للعسكر الذين كانوا يمثلون قلعة العلمانية ومحاولة إعادته للحلم الإسلامي الذي انتهى من تركيا بغروب شمس الخلاف العثمانية، وهو صاحب القول المأثور "من هنا سقطت دولة الخلافة ومن هنا ستعود" ومما يؤثر عنه أنه عندما زار قبر أتاتورك إبان توليه رئاسة الحكومة التركية كتب على دفتر الزيارات "لن ننسى ما فعله هذا الرجل" وفهمها الناس كل حسب توجهه. وحتى خصومه اعترفوا بأن انقلابهم على أربكان كان خطأ بشعاً، فقد كتب الجنرال توركر أرتورك أحد المتهمين في قضية "باليوز" بموقع تركي في 24 ديسمبر 2010م بأن من بين الأخطاء التي قد ترتكبها القوات المسلحة بين الحين والآخر انقلابها على نجم الدين أربكان في 28 فبراير 1997م. ومع دخول أربكان مع تلامذته في أجواء ساخنة منذ خروجهم عن طوقه وإعلانهم عن تأسيس حزب العدالة والتنمية الذي أصبح الحزب الحاكم لتركيا إلا أنه سامح عبد الله جول وأردوغان ونعمان قورتولموش خلال مقابلة أجرته معه جريدة الزمان التركية في 6 ديسمبر 2010م، وكان يأمل بأن يخوض معركة انتخابية في برلمان 2011، إلى جانب أنه يصف مشواره السياسي بأنه جهاد وليس سياسة. COLOR=#FF2600سيرة استثنائية ولد نجم الدين أربكان في 29 أكتوبر من عام 1926م، ونشأ في كنف الطريقة النقشبندية برعاية شيخها محمد زاهد كوتكو، ودخل أربكان السياسة من عالم المحركات بعد تخرجه من كلية الهندسة الميكانيكية باستنبول سنة 1948م وكان الأول على دفعته لترسله الجامعة في بعثة علمية إلى جامعة "آخن" الألمانية وفيها ابتكر عدة ابتكارات خلال دراسته في ألمانيا لتطوير محركات الدبابات ويصبح "بروفيسور" وهو لم يتجاوز التاسعة والعشرين. حصل على الكتوراه من جامعة "آخن" الألمانية في هندسة المحركات عام 1956م وعمل أثناء دراسته في ألمانيا رئيساً لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات "كلوفز، هومبولدت، دويتز" بمدينة كولونيا، وتوصل أثناء عمله إلى ابتكارات جديدة لتطوير صناعة محركات الدبابات التي تعمل بكل أنواع الوقود. وكان أول عمل يزاوله بعد تخرجه تأسيس مصنع "المحرك الفضي" مع ثلاثمائة من زملائه، وقد تخصص المصنع في تصنيع محركات الديزل، وبدأت إنتاجها الفعلي عام 1960م ولا تزال هذه الشركة تعمل حتى الآن وتنتج نحو ثلاثين ألف محرك ديزل سنوياً. غير أن عمله في محركات الدبابات قد ألهمته للعمل في محركات البشر ليبدأ حياته السياسية بعد تخرجه من كلية الهندسة ويترأس اتحاد النقابات التجارية ومنها انتخب عضوا في مجلس النواب عن مدينة قونية ومثلها سنة 1969م. وقام بتأسيس أول حزب إسلامي في تركيا سماه "حزب النظام الوطني" عام 1970م وكان أول حزب ذا توجه إسلامي منذ نهاية الخلافة العثمانية عام 1924م لتبدأ سلسلة النزال مع النظام العلماني التي حاولت إقصاؤه عن المشهد وقام العسكر بحل حزبه ليقوم بتأسيس حزب "السلامة الوطني" عام 1972م وأنشأ مجلة "مللي غازيته". وهو صاحب القرار التاريخي عام 1974م للتدخل في قبرص وإنزال الجيش التركي في "قبرص التركية" عندما كان نائباً لرئيس الوزراء عندما اندمج حزب "السلامة الوطني" مع حزب "الشعب الجمهوري". لكنه دخل مرحلة السجون التي ألفها في حياته بعدما قام انقلاب عسكري ضده في اليوم التالي من مظاهرة ضمت أكثر من نصف مليون تركي بمناسبة "يوم القدس العالمي" عام 1980م هتف خلالها بشعارات تندد بإسرائيل. ومن جديد أسس حزب "الرفاه الإسلامي" ودخل به الانتخابات البرلمانية عام 1996م ليحصد على (185) مقعداً ليصبح أكبر حزب في تركيا وترأس خلالها حكومة ائتلافية مع حزب الطريق برئاسة تانسو تشيللر. غير أن العسكر الحامي للعلمانية قام بحظر حزب الرفاه وأحال أربكان إلى القضاء بتهم أبرزها انتهاك مواثيق علمانية الدولة ومنع خلالها من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، وبمجرد انتهاء فترة الحظر خرج أربكان ليؤسس حزب "السعادة" عام 2003م مما أرهق خصومه في مجاراته ومحاولة إخراجه من الحياة السياسية. COLOR=#FF0F00صاحب لعبة الأبواب الدوارة في وسائل الإعلام التركية، وفي الأوساط والمحافل السياسية التركية، وعلى امتداد الشارع التركي المسيس؛ يطلقون على الزعيم الإسلامي التركي نجم الدين أربكان لقب "أبو السبعة أرواح"، وهو لقب يبدو أن أربكان يستحقه بجدارة، من كثرة ما دخل من محاكم وسجون وخرج منها، بل إن تجربة أربكان السياسية تتجاوز ذلك إلى براعته في نحت المنابر السياسية في ظروف تتميز بأنها جميعا استثنائية. فقد بلغ عدد ما أسس من الأحزاب خمسة، فلا يكاد يؤسس حزبا حتى يحاصره حماة العلمانية في تركيا، وخاصة جنرالات المؤسسة العسكرية، فيحظرونه ويختمون أبوابه بالشمع الأحمر؛ ليعود أربكان ليؤسس حزبا جديدا، فيغلقه النظام القائم على توليفة عسكرية وقضائية قادرة على خفض مستوى السقف السياسي كلما لزم الأمر. لكن أربكان الذي أتقن لعبة الأبواب الدوارة كان لا يلبث أن يعود إلى تأسيس حزب جديد لا يختلف عن سابقه إلا في اللافتة والشعار والمنسوب التراكمي للخبرة. فمن هو نجم الدين أربكان، ذو الأرواح السياسية السبعة؟ COLOR=#FF2600ذو الأرواح السياسية السبعة ينحدر هذا البروفيسور من نسل الأمراء السلاجقة الذين عُرفوا في تاريخ تركيا باسم "بني أغوللري"، وكان جده آخر وزراء ماليتهم، بينما كانت أسرة أربكان تلقب ب "ناظر زاده"، أي ابن الوزير. وقد أبصرت عينا أربكان النور في عام 1926 في مدينة سينوب، الواقعة في أقصى الشمال على ساحل البحر الأسود، وأنهى دراسته الثانوية في عام 1943؛ ليلتحق بجامعة الهندسة في إستانبول، وليتخرج في كلية الهندسة الميكانيكية في عام 1948، وكان الأول في دفعته، ما أهله بجدارة لتعيينه معيدا في الكلية ذاتها. وأوفد الشاب الطموح في بعثة دراسية إلى ألمانيا في عام 1951؛ لينال في عام 1953 من جامعة آخن شهادة الدكتوراة في هندسة المحركات. وعاد نجم الدين أربكان من فوره إلى جامعة إستانبول، ليحصل على درجة مساعد بروفيسور، وأثناء وجوده في ألمانيا عمل إلى جانب دراسته رئيسا لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات "كلوفز – هومبولدت – دويتز" بمدينة كولونيا. وقد توصل أثناء عمله إلى ابتكارات جديدة لتطوير صناعة محركات الدبابات، التي تعمل بكل أنواع الوقود. وفي نهاية عام 1965 عاد أربكان إلى جامعة الهندسة في إستانبول، ليعمل أستاذا مساعدا، وفي العام نفسه حصل على درجة الأستاذية، فأصبح بروفيسورا في اختصاص المحركات، بينما لم يكن قد تجاوز التاسعة والعشرين من العمر. إلا أن ذلك لم يكن كل الإنجازات التي حققها هذا الشاب التركي في حياته العملية، فبينما كان في العشرين من عمره؛ أنشأ أربكان أول أعماله الاستثمارية الخاصة، وتحديدا في عام 1956، حيث أسس مصنع "المحرك الفضي" هو ونحو ثلاثمائة من زملائه، فتخصصت هذه الشركة في تصنيع محركات الديزل، وبدأت إنتاجها الفعلي عام 1960، ولا تزال هذه الشركة تعمل حتى الآن، وتنتج نحو ثلاثين ألف محرك ديزل سنويا. وتولى أربكان عددا من المناصب التجارية والاقتصادية في تركيا خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، ولم يُخْفِ الرجل حينها ميوله الإسلامية التي أثارت حوله جدلا واسعا من قبل العلمانيين الأتراك الذين بدءوا حينها حربا إعلامية ضده، بالنظر إلى الخطورة التي توقعوها من أربكان، باعتبار أنه أحد أعمدة الاقتصاد التركي. وكمثال على ما زخرت به الصحف من هجوم على أربكان في ذلك الوقت، قالت مجلة "آنت" العلمانية في عددها رقم 127 الصادر في الثالث من حزيران (يونيو) 1969 "هناك صراع واضح في هذه الأيام في عالم التجارة الصناعة بين فئتين: فئة الرفاق الماسونيين الذين يعملون بحماية رئيس الوزراء سليمان ديميريل؛ وفئة الإخوان المسلمين الذين يعملون برئاسة نجم الدين أربكان"، على حد تعبيرها. COLOR=#FF1F00من الصناعة والاستثمار.. إلى قلب الحياة السياسية لكأن نجم الدين أربكان كان على موعدٍ مع قدره، فينتقل من حلبة الصناعة إلى حلبة السياسة ليؤسس، ويقود ويهندس حركة الانبعاث الإسلامية الحديثة في تركيا. وكانت بداية التحول في حياة أربكان من هندسة الصناعة إلى هندسة السياسة؛ من مدينة قونية، التي كانت على امتداد تاريخ تركيا الإسلامي، وما تزال؛ معقلا إسلاميا. ومن هذه المدينة؛ بدأ أربكان أول تجربة سياسية في حياته، حين خاض الانتخابات النيابية التي جرت في عام 1969 كمرشح مستقل، فأكرمته المدينة المتدينة، إذ حملته أصوات ناخبيها وناخباتها بما يشبه الإجماع و"الاكتساح"، إلى مجلس النواب التركي، ممثلا لهذه المدينة. COLOR=#FF0800التجربة الأولى.. حزب النظام الوطني سرعان ما بلور أربكان في عام 1970، أول حزب من نوعه في الجمهورية التركية الكمالية مع عدد من المفكرين والناشطين الإسلاميين، أطلق عليه "حزب النظام الوطني"، الذي تسميه بعض المراجع حزب "الخلاص الوطني". وأعلن أربكان هوية حزبه هذا بوضوح، حينما قال "إن أمتنا هي أمة الإيمان والإسلام، ولقد حاول الماسونيون والشيوعيون بأعمالهم المتواصلة أن يُخربوا هذه الأمة ويفسدوها، ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد، فالتوجيه والإعلام بأيديهم، والتجارة بأيديهم، والاقتصاد تحت سيطرتهم، وأمام هذا الطوفان؛ فليس أمامنا إلا العمل معا يدا واحدة، وقلبا واحدا؛ حتى نستطيع أن نعيد تركيا إلى سيرتها الأولى، ونصل تاريخنا المجيد بحاضرنا الذي نريده مشرقا…"، وهي الكلمات التي كانت بمثابة إلقاء حجر كبير في البركة الراكدة. ويرى المراقبون أن هذا الخطاب الذي ألقاه أربكان في الذكرى الأولى لتأسيس حزبه كان الأشد وطأ على مسامع الطبقة العلمانية المتنفذة التي يقف جنرالات الجيش التركي على رأسها، الأمر الذي دفعهم بعد أشهر من إلقائها إلى إقامة دعوى حكومية ضد حزب النظام الوطني، فأصدرت محكمة أمن الدولة العليا قرارا بحل الحزب ومصادرة أمواله وممتلكاته، بعد أن جرمته بتهمة انتهاك الدستور العلماني، والعمل على إلغاء العلمانية، وإقامة حكومة إسلامية في تركيا، والعمل ضد مبادئ أتاتورك. كما حكمت المحكمة بمنع أي عضو في الحزب من العمل في حزب آخر، أو تأسيس حزب آخر، أو ترشيح نفسه للانتخابات ولو بشكل مستقل، وذلك طيلة خمس سنوات. إلا أن التجربة كانت لها بصماتها على مسيرة من سيغدو مؤسسا لعدد من الأحزاب اللاحقة على مدى ثلاثة عقود، ورئيسا للوزراء أيضا. وبعد صدور حكم محكمة أمن الدولة العليا بحل حزب النظام الوطني، وحرمان مؤسسه وأعضائه من العمل السياسي لمدة خمس سنوات؛ غادر البروفيسور أربكان تركيا، وكان ذلك في الربع الأخير من عام 1970م. وبعد سنتين، أي في عام 1972؛ عاد أربكان إلى بلاده ليدفع بعض الإسلاميين ممن لا ينطبق عليهم حكم محكمة أمن الدولة العليا إلى تشكيل حزب جديد أطلق عليه اسم "حزب السلامة الوطني"، وأعلن تأسيس الحزب في تشرين أول (أكتوبر) 1972، وأصدر بعد ذلك بعدة أشهر صحيفته الرسمية "مللي غازيته" التي ما زالت تصدر إلى اليوم. وفي عام 1973 صدر عفو عام عن الجرائم السياسية، فشمل ذلك الحكم نجم الدين أربكان، ما أهله لقيادة حزب "السلامة الوطني" وخوض الانتخابات، ليفوز الحزب ب 48 مقعدا. وعندما احتدم الخلاف بين الحزبين الرئيسين: حزب العدالة (149 نائبا) بزعامة سليمان ديميريل، وحزب الشعب الجمهوري (186 نائبا) بزعامة بولنت أجاويد؛ اضطر الأخير للائتلاف مع حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان، فحصل حزب السلامة على سبع وزارات هامة، منها الداخلية والعدل والتجارة والجمارك والزراعة والصناعة والتموين ووزارة دولة، وتقلد أربكان منصب نائب رئيس الوزراء. ومثلت مشاركة حزب السلامة الوطني في حكومة ائتلافية أول اختراق إسلامي للسلطة التنفيذية في الجمهورية العلمانية منذ تأسيسها على يد أتاتورك، ما دفع العلمانيين للتحرك السريع، حيث اضطرت الحكومة الائتلافية إلى الاستقالة بعد تسعة أشهر من تشكيلها. لكن ذلك كان إجراء عابرا بالنسبة للتجربة الإسلامية الصاعدة. فقد اضطر المناخ السياسي المهيمن في ظل عدد من الظروف الموضوعية الضاغطة حزب العدالة التركي بزعامة سليمان ديميريل إلى الائتلاف مع حزب السلامة الوطني بزعامة أربكان، ما مكن الأخير ورجاله من العودة مرة أخرى إلى الحكومة، بالعدد نفسه من الوزراء ومقاعدهم في الحكومة السابقة. إلا أن الانتخابات التي جرت عام 1977، والتي أعد العلمانيون والقوميون الأتراك العدة المناسبة لها، بعد تجربتهم مع الإسلاميين في الانتخابات التي سبقت ذلك؛ أتت مخيبة لآمال الإسلاميين الأتراك، فقد انحسر عدد مقاعدهم في مجلس النواب التركي إلى 24 نائبا فقط. ورغم طي صفحة مشاركة أربكان في الحكومة؛ فإنه كان قد سجل خلال ذلك واحدة من أبرز الخطوات التي اتخذها في حياته السياسية؛ أي قراره في العام 1974 الدفع باتجاه اجتياح القوات التركية للثلث الشمالي من جزيرة قبرص، للقيام بدور مكافئ للنفوذ اليوناني في الجزيرة إثر قيام المجلس اليوناني الحاكم فيها بانقلاب. وقد أتيح لأربكان ذلك بموجب صلاحياته في ظل غياب رئيس الوزراء في الخارج. COLOR=#FF0F00انقلاب يحل الحزب ويفضي بأربكان إلى السجن نجح نجم الدين أربكان في السادس من أيلول (سبتمبر) 1980 من تنظيم تظاهرة باسم حزب السلامة الوطني، في مدينة قونيه التركية، شارك فيها أكثر من نصف مليون تركي، وكانت هذه المسيرة بمناسبة يوم القدس العالمي، وهتف المتظاهرون خلال مسيرتهم بشعارات إسلامية معادية للاحتلال الإسرائيلي. وبعد ذلك بيوم واحد فقط؛ كانت الإذاعة التركية تذيع البلاغ رقم 1، الذي يعلن عن انقلاب عسكري بزعامة الجنرال كنعان إيفرين، ولم يمض يومان من هذا الانقلاب حتى صرح قائده بأن الجيش تدخل ليوقف المد الإسلامي، وليوقف "روح التعصب الإسلامي الذي ظهر في مظاهرة قونية". وكانت مجلة "نيوزويك" الأمريكية قد نشرت على غلاف عددها الصادر في أعقاب هذا الانقلاب صورة لقائد الانقلاب مع تعليق يقول "بساطير العسكر توقف المد الإسلامي في تركيا". ومن فورهم؛ اقتاد جنرالات الانقلاب في تركيا أربكان وعددا من رجاله إلى السجن، بتهم متعددة؛ من بينها العمل على استبدال مبادئ تقوم على أساس الإسلام بقوانين الدولة العلمانية، وهو ما كان كافيا لأن يحكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات وأخرجته من الحلبة السياسية التي أصبح العسكر يمسكون بها مباشرة. COLOR=#FF0800من هامش العسكر إلى قمة صناعة القرار التعديلات القانونية التي أجريت في بدايات العقد الأخير من القرن الماضي؛ أتاحت لأربكان أن يعمد إلى تأسيس حزب جديد أطلق عليه اسم "حزب الرفاه". وكما هو متوقع؛ واجه الحزب سلسلة من مذكرات الاتهام والادعاء من قبل عدد من المحاكم التركية، إلا أنه استطاع بعد سنوات من تأسيسه؛ الحصول على 185 مقعدا في الانتخابات النيابية التي جرت عام 1996، ليصبح الحزب الأكبر في البرلمان التركي. إثر النصر الانتخابي غير المسبوق قام رئيس الجمهورية التركية آنذاك سليمان ديميريل بتوجيه كتاب خطي لنجم الدين أربكان، بصفته زعيم أكبر حزب في البرلمان، لتشكيل حكومة تركية جديدة، فشكل أربكان حكومته بالتآلف مع حزب "الطريق القويم" الذي كانت تقوده تانسو تشيلر. وسريعا طفت على السطح حالة التوتر بين حكومة أربكان الأولى من نوعها في تركيا منذ عهد أتاتورك؛ وجنرالات الجيش التركي، الذي يُنظر إليه على أساس أنه حامي مبادئ الجمهورية العلمانية. وتمثلت هذه الحالة بالهجمات الصحفية والإعلامية الضارية ضد الحكومة، وعلى الجانب المقابل كان على أربكان وحزبه التصدي لحملات التهديد والوعيد، ففي تصريح أدلى به أربكان في الثاني من تشرين ثاني (نوفمبر) 1997، وفسره المراقبون على أنه بمثابة رسالة تحدٍ لجنرالات العلمانية؛ أكد أربكان عزم حكومته على بناء مسجد ضخم في ميدان تقسيم في إستانبول، حيث ينتصب أكبر تمثال لأتاتورك، فضلا عن تشييد مسجد آخر في أنقرة في منطقة شانكايا التي تحتضن مقار مؤسسات الجمهورية العلمانية الرسمية. وانتهت محاولات جنرالات الجيش التركي إلى لجم حزب الرفاه وزعيمه أربكان، بضعضعة الائتلاف مع حزب الطريق القويم بزعامة تشيلر، فأدى انفراط الحزبين إلى استقالة الحكومة في أوائل حزيران (يونيو) 1997، وبعد ذلك ببضعة أشهر تقدم المدعي العام بدعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية، مطالبا بحل حزب الرفاه أيضا بتهمة العمل على تغيير النظام العلماني في تركيا. وكان الشهر الأخير من سنة 1997 إيذانا باستعادة التاريخ السياسي لذاته؛ فقد أصدرت المحكمة الدستورية التركية حكما بحل "الرفاه"، وبمنع زعيمه أربكان وعدد من رجاله من العمل السياسي لمدة خمس سنوات. ولعل المفارقة التي تجسدت في تجربة حكومة أربكان أنها جعلت هذا الزعيم الإسلامي وهو في أوج انتصاره الانتخابي محاصرا بقيود السلطة التي تحرسها حراب العسكر، وتطوقها مؤسسات علمانية متأهبة، وتترصد لها آلة إعلامية مهيمنة على الرأي العام المحلي. وكان من تداعيات ذلك؛ وضع أربكان في موقف لا يحسد عليه، في مواجهة مدارس "إمام خطيب" التي تعد الرافد المتبقي للحالة الدينية في تركيا، علاوة على عجزه عن التأثير على ملف علاقات التحالف المزدهرة بين أنقرة وتل أبيب التي أبرمتها المؤسسة العسكرية. وحتى طموحات أربكان الكبرى، بخاصة التكامل الاقتصادي مع العالم الإسلامي، وإقامة منظمة الدول الإسلامية الثمانية، على غرار "نادي الأقوياء" الثماني الذي يضم كبرى الدول الصناعية؛ لم يكتب له فيه سوى فضل المبادرة التي لم يتسع لها الهامش الزمني، ولا التوازنات الدولية التي تحكم الدول الإسلامية. COLOR=#FF1F00الإسلاميون يشكلون حزب الفضيلة لم يكن قرار المحكمة الدستورية بحل حزب الرفاه مفاجئا للإسلاميين، بل كانوا يتوقعونه في أية لحظة، وكان أربكان يخطط لمواجهة هذا الموقف عند حدوثه، فوضع مشروعا لتأسيس حزب يخلف الرفاه في حالة حله. ولما صدر قرار حل حزب الرفاه؛ لم يتمكن أربكان، بسبب منعه من العمل السياسي من تأسيس الحزب الجديد، فقام بتشكيله عدد من قادة الرفاه الذين لم يصدر بحقهم حكم بمنعهم من العمل السياسي، فأسسوا حزبا جديدا أطلقوا عليه اسم "حزب الفضيلة" برئاسة إسماعيل ألب تكين الذي تخلى عن زعامة الحزب لإفساح المجال أمام انتخاب رجائي قوطان رئيسا للحزب في المؤتمر الطارئ للحزب الذي انعقد عام 1998. وجدد الحزب انتخاب قوطان رئيسا له في مؤتمره العام المنعقد في 2000، فنال قوطان 632 صوتا من أصوات المندوبين المشاركين في المؤتمر، مقابل 521 صوتا نالها منافسه عبد الله جول، وكانت هذه المنافسة غير المألوفة أولى بوادر الانشقاق الذي سيظهر فيما بعد في الصف الإسلامي على الساحة الحزبية التركية. وبالطبع واجه حزب الفضيلة ما عانت منه الأحزاب السابقة التي بات وريثا لها، عبر حملات شنتها الصحف ووسائل الإعلام العلمانية، فتمت محاكمة زعيم الحزب بتهمة "معاداة العلمانية". إلى أن تم حله في عام 2001 بقرار من المحكمة الدستورية. COLOR=#FF0F00حكم جديد يمنع أربكان من العمل السياسي حرص أركان النظام التركي على تشديد الحصار حول البروفيسور نجم الدين أربكان، ولم يكتفوا بالحكم الصادر من قبل بمنعه من العمل السياسي، فقد تم الاتجاه هذه المرة إلى سد منافذ عودته المحتملة إلى ممارسة العمل السياسي، حرصا على إبقائه بعيدا عن الساحة السياسية. ففي الخامس من تموز (يوليو) 2000، أكدت محكمة التمييز حكما كانت قد أصدرته محكمة أمن الدولة في مدينة ديار بكر بالسجن لمدة عام لأربكان، بتهمة التحريض على "الكراهية الدينية والعرقية"، وحرمانه من العمل السياسي مدى الحياة، واستندت المحكمة في حكمها إلى خطاب قديم كان أربكان قد ألقاه في مهرجان انتخابي في عام 1994. وفي اليوم التالي لقرار محكمة ديار بكر؛ أصدرت المحكمة الدستورية في أنقرة هي الأخرى قرارا بحرمان أربكان من العمل السياسي مدى الحياة، بعد تأكيد محكمة التمييز لحكم محكمة أمن الدولة في ديار بكر. COLOR=#FF0000السعادة.. والعدالة والتنمية.. وما بينهماوفي الانتخابات التي جرت عام 2002، اكتسح حزب العدالة والتنمية الانتخابات، وحصل على 363 مقعدا من أصل 550 مقعدا هي مقاعد المجلس النيابي، فيما أخفق حزب "السعادة" في الدخول إلى البرلمان حينما لم يتمكن من الحصول على نسبة 10 في المائة من أصوات الناخبين. وبهذا تكون قد تبلورت تجربة سياسية جديدة لقطاع من "تلاميذ أربكان"، وإن كان خارج عباءته هذه المرة، لتكون التجربة مفتوحة على آفاق عدة، وعلى موعد مع ضمور كبير لمعالم الخطاب الإسلامي الذي كان متبعا في سلسلة الأحزاب السابقة التي جرى حظرها. أما نجم الدين أربكان الذي تجاوز الكثير من الخطوط الحمر خلال تاريخه السياسي الحافل؛ فكان على الجانب الآخر متمسكا بما يعتقد أنه الهوية الأصيلة لتركيا، وهي الإسلام وليست العلمانية.