ثمة فرق بين الأصل والصورة في المشهد التركي. وهو ما لمسته أثناء زيارة قمت بها في الأسبوع الماضي لأنقرة واستنبول، أقنعتني مجدداً بأنه ليس من رأى كمن سمع أو قرأ. ذلك أن ما وقعت عليه هناك يدعونا إلى إعادة النظر في الكثير مما استقر في أذهاننا عن حقيقة الزلزال الذي وقع هناك. "1" لا يزال "الزلزال" عنواناً لما جرى في اليوم الثالث من نوفمبر، حين فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية كاسحة في الانتخابات النيابية (حصد 34% من الأصوات)، جعلته يقلب الساحة رأساً على عقب ويشكل الحكومة منفرداً، رغم انه دخل إلى حلبة الملاكمة السياسية منذ خمسة عشر شهراً فقط. لكن ما اختلف في المقارنة بين الأصل والصورة هو طبيعة الزلزال، وخلفياته واتجاهاته ومقاصده. وجاء هذا الاختلاف نتيجة للطريقة التي قرأنا بها الحدث، حيث قرأناه اعتماداً على ذاكرة التاريخ - وأحياناً تعلقاً بما تمنيناه - وليس استناداً إلى حقائق الواقع ومعطياته، وبعيون عربية وإسلامية وليس بعيون تركية. وإذ اختلف المنهج، فقد كان طبيعياً أن تختلف النتائج، الأمر الذي قادنا إلى الكثير من الانطباعات والتحليلات غير الدقيقة او الخاطئة. وهذه مسألة تحتاج إلى شرح، استأذن في أن اعتمد فيه على تجربتي الشخصية. فقادة حزب العدالة اعرفهم وأتابعهم منذ عقدين من الزمان تقريباً، خصوصاً رئيسه رجب الطيب اردوغان ونائبه عبد الله جول رئيس الوزراء الحالي. إذ كانا آنذاك من بين الشباب الواعدين في الحركة الإسلامية، ممثلة في حزب الرفاه ثم حزب الفضيلة، والأب الروحي للحزبين وللرجلين هو الزعيم الإسلامي المعروف الدكتور نجم الدين اربكان. وقد لمع نجم اردوغان حين انتخب رئيساً لبلدية استنبول في منتصف التسعينيات وحقق نجاحاً كبيراً رفع من شعبيته في العاصمة الثانية للبلاد. أما عبد الله جول فقد عرفته شاباً متمرداً وطموحاً وداعياً إلى التجديد داخل الحركة الإسلامية، ثم وزيراً للعلاقات الخارجية في حكومة اربكان (عام 96)، إلى أن رشح نفسه زعيماً لحزب الفضيلة (بعد حل "الرفاه" وحرمان اربكان من العمل السياسي)، ولكن اربكان والتيار التقليدي في الحزب تكتلا ضده، ففاز بالزعامة المهندس رجائي قوطان (كان آنذاك في السبعين من عمره). ظلت هذه الصورة مهيمنة على إدراك كثيرين خصوصاً المتابعين للشأن الإسلامي خارج تركيا، وأنا واحد منهم. وعلى البعد لم نلاحظ أن شباب الثلاثينيات اصبحوا في الخمسينيات، وان آفاقهم اتسعت، وأفكارهم تطورت، وان رؤيتهم للعمل السياسي تأثرت بما اكتسبوه من خبرة خلال تلك الفترة (اردوغان قضى أربعة اشهر في السجن)، وما تعلموه من دروس، لعل أهمها تجربة الأستاذ نجم الدين اربكان في الحكم، التي انتهت باستنفار العسكر والصدام مع قادتهم، على النحو الذي سنتحدث عنه بعد قليل. حين أسس اردوغان ورفيقه عبد الله جول حزب (العدالة والتنمية) قبل سنة ونصف. استقبلت تلك الخطوة بحسبانها انشقاقاً عادياً داخل الحركة الإسلامية، كانت بوادره قد لاحت بالفعل أثناء التنافس على قيادة حزب الفضيلة (في شهر مايو عام 2000). في الخارج لاحظنا التغير في الأشخاص ولم نلاحظ التغير في الأفكار، ومن ثم فقد اعتبرنا أن حزب العدالة والتنمية امتداد او فرع عن الرفاه والفضيلة، واعتقدنا انه بمثابة قطار آخر يسير على ذات القضبان، في حين كانت الحقيقة غير ذلك، لان الفريق الجديد كان قد اختط طريقاً آخر واختار لمسيرته قضباناً مغايرة، تختلف عن تلك التي عرفناها وألفناها. "2" بعدما التقيت في أنقرة واستنبول بعدد من السياسيين في المقدمة منهم عبد الله جول رئيس الوزراء وسليمان ديميريل الرئيس الأسبق، وعدد اخر من الدبلوماسيين والمراقبين، ومن ثم استمعت إلى وجهات النظر المختلفة، خرجت بخلاصة مفادها أننا بصدد تجربة فريدة في الساحة التركية، وان جوهر الفرق بين اربكان واردوغان يكمن في أن الأول نظر إلى تركيا الإسلامية، ومن ثم فانه أسس حزباً استلهم تجربة العمل الإسلامي في العالم العربي بوجه أخص. أما الثاني فانه تعامل مع الكمالية في تركيا المسلمة، واختار صيغة في العمل السياسي نابعة من طبيعة وظروف الساحة التركية ولا علاقة لها بما يجري في عالمنا. ان شئت فقل أن اربكان وضع الإسلام أمامه أما اردوغان فانه وضعه في قلبه. وفي حين لم يتردد الأول في أن يشتبك مع المؤسسة العلمانية الكمالية ويستفزها (مثلاً: عبر دعوة مشايخ الطرق إلى الإفطار في مقر رئاسة الوزراء ومحاولة إقامة مسجد في ميدان "تقسيم" باستنبول، الذي يعد أحد رموز العلمانية الكمالية وفيه تمثال كبير لاتاتورك)، فان الثاني جاء متصالحاً مع المؤسسة العلمانية وحريصاً على تجنب الاشتباك او الصدام معها، حتى رفض مثلاً الاستدراج للدخول في معركة بشأن الحجاب، وقال في اكثر من مناسبة ان موضوعه ليس مدرجاً ضمن أولويات برنامج الحزب او الحكومة. وإذا جاز لي أن استطرد في المقابلة. فقد أقول أيضاً أن اربكان جعل من حزبه إطاراً لحركة إسلامية، في حين أراد اردوغان لحزبه أن يصبح مظلة لتجمع إصلاحي محافظ. وقد حرص على استخدام هذا الوصف في التعريف باتجاه حزبه. وهو ما ألح عليه أيضاً عبد الله جول اكثر من مرة. ولان هذه هي الحقيقة، فلم يكن مستغرباً أن يكرر الاثنان نفيهما لوصف الحزب بأنه "إسلامي" تبعاً للمفهوم الشائع عندنا وعند غيرنا، وتمسكهما بالصيغة التي لا تستبعد الإسلام ولكن تضعه في وعاء يتعايش فيه مع الديموقراطية والعلمانية، وغيرهما من القيم السائدة في المجتمع التركي. وهو ما يدعوني إلى القول بأن حزب العدالة اقرب إلى حزب الوفد في مصر مثلاً منه إلى الإخوان المسلمين. "3" قد لا نبالغ اذا قلنا أن الجغرافيا فضلاً عن التاريخ تآمرا على الهوية التركية، حتى حولاها إلى حالة بالغة الخصوصية، يندر أن نجد لها مثيلاً في الشرق او الغرب. فقد فرضت الجغرافيا على تركيا أن يكون جزء منها في أوروبا (بنسبة 3% ويطلق عليه تراقيا) والجزء الآخر في آسيا، وهو المعروف باسم "الأناضول". الأمر الذي جعل لها نسباً هنا وقدماً هناك، وحولها بالتالي إلى منطقة تجاذب بين الشرق والغرب. ورغم أن المراجع التاريخية تتحدث عن علاقات للأتراك بأوروبا في القرن الثالث قبل الميلاد، الذين توغلوا فيها وأسسوا "الإمبراطورية الهونية الغربية"، كما تتحدث عن توجه السلطان سليم الثالث صوب الغرب في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، لتحديث بلاده وانتشالها من وهدتها، إلا أن القدر المتيقن أن كمال اتاتورك هو الذي عمل على انتزاع تركيا من الشرق بالكامل والتحاقها بالغرب، وقد سعى إلى ذلك منذ تأسيس الجمهورية في عام 1923م، على أنقاض الخلافة العثمانية التي ألغاها، حيث كانت تلك بداية القطيعة بين تركيا وبين مختلف مظاهر الانتماء إلى الإسلام، الذي الغي كدين رسمي للدولة، وجرى النص في الدستور (عام 1937) على أن تركيا دولة علمانية. ولأنها كانت علمانية على النمط الفرنسي المخاصم للدين (على عكس العلمانية الانجلوسكسونية المتصالحة مع الدين، وفي ظلها اعتبرت ملكة إنجلترا رئيسة للكنيسة)، فقد اصبح نفي الدين والضيق بمختلف مظاهر التدين في مكونات الجمهورية التركية، وجزءاً من ثقافة النخبة. واعتبر الجيش حارساً لهذا الموقف، باعتباره حارساً للنظام الجمهوري. خلال سبعين عاماً من الحكم الجمهوري، نشأت أجيال تربت على تلك الثقافة. والتقت على قيمها مؤسسات ضخمة ومصالح هائلة وارتباطات يتعذر الإحاطة بحدودها او تشعباتها، وتحول هؤلاء جميعاً إلى مراكز قوى سياسية واقتصادية وعسكرية، تقمع بشدة أية بادرة تشتم فيها رائحة الخروج على "النص الكمالي"، اذا جاز التعبير. ليس ذلك وحسب، وإنما تولى هؤلاء تحديد ضوابط اللعبة السياسية وقواعدها، والمباح وغير المباح فيها، واصبح مجلس الامن القومي الذي يشارك فيه رئيس الأركان وقادة أسلحة الجيش مع عدد من كبار المسئولين المدنيين، في مقدمتهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، هو المرجعية الحقيقية التي تحدد شروط اللعبة السياسية وسقفها، كما تحدد رؤيتهم للعلمانية. "4" خلال العهد الجمهوري، منذ عام 1923م، أصبحت تركيا بمثابة جسم مسلم (99% من السكان يدينون بالإسلام) له رأس علماني مخاصم للإسلام، ولمختلف مظاهر التدين. وحتى سنة 1970 كان النشاط الإسلامي محصوراً في بقايا الطرق الصوفية التي لجأت إلى العمل السري، بعدما حظر الكماليون وجودها ولاحقوا أفرادها طوال فترة الحزب الواحد (بين عامي 23 و 1950). وكان جل اهتمام تلك الطرق منصباً على حماية البنية الفكرية والاجتماعية لها من التفكك والإبادة، ولم تمارس بطبيعتها أي نشاط سياسي ناهيك عن أنها لم تمارس أي نشاط علني. غير أن المياه الراكدة اخذت في التحرك ابتداء من عام 1950، بعد تطبيق التعددية السياسية، في إطار احتذاء النموذج الغربي، وفوز الحزب الديمقراطي بزعامة عدنان مندريس، الذي ترأس الوزارة. وفي محاولة من جانبه لامتصاص التوتر السائد في مجتمع من جراء الحملة على مظاهر التدين، فانه اتخذ مجموعة من الخطوات البسيطة، مثل إعادة رفع الآذان باللغة العربية. بعدما كان يرفع بالتركية، والسماح بإذاعة تلاوة القرآن مرة كل أسبوع (صباح الجمعة) ومرتين في اليوم (صباحاً ومساء) خلال شهر رمضان، وفتح مدارس الأئمة والخطباء، وإدخال المواد الدينية ضمن برامج المدارس الابتدائية. غير أن تلك الإجراءات قوبلت بغضب شديد من جانب قادة الجيش، التي اعتبرتها عودة إلى "الرجعية" وارتداداً إلى "عصور الظلام"، وانتهز الجيش أجواء الأزمة الاقتصادية والسياسية التي عانت منها تركيا في اخر الخمسينيات، فقام قادته بانقلاب في عام 1960، أطاحوا فيه بحكومة عدنان مندريس، انتهى بإعدام الرجل ووزيري الخارجية والمالية في حكومته. وكانت تلك بداية "عسكرة" الديمقراطية التركية، التي ما زالت مستمرة إلى الآن. لم يغلق إعدام مندريس ملف الانبعاث الإسلامي النسبي في تركيا، لان السنوات العشر التي مرت بين عامي 1950 و 1960 أتاحت للإسلام الفكري والاجتماعي أن يلتقط أنفاسه وان يعبر عن بعض تطلعاته، وفي الوقت ذاته فانها أتاحت للعامل الإسلامي أن يثبت حضوره في الحياة السياسية من خلال بعض أحزاب النظام نفسه. وإذا لاحظت أن مظاهر "الانبعاث" الذي نتحدث عنه لا تتجاوز الحدود الدنيا التي تتراوح بين رفع الآذان باللغة العربية وإتاحة الفرصة لتعريف تلاميذ المدارس بدينهم، فان ذلك يبين لك الفرق بين مدلول المصطلح هناك ومدلوله في عالمنا العربي على سبيل المثال. وهذا الفرق حاصل في استخدام مصطلحات أخرى كثيرة، هي عندهم مسكونة بمعان مختلفة تماماً عنها في بلادنا. حتى أن مصطلح "الإسلام السياسي" مثلاً لا يعدو في المفهوم التركي أن يكون تعبيراً عن الهوية الإسلامية وبعض مظاهر الالتزام بالشعائر، وليس له أية صلة بفكرة الدولة الإسلامية. هذا الحضور الإسلامي المتواضع في الحياة العامة التركية ظل قائماً بدرجات متفاوتة في بعض الأحزاب السياسية التي ضمت متدينين واحترمت شعائر الإسلام (حزب العدالة بزعامة سليمان ديميرل، وحزب الوطن الأم الذي أسسه توركت اوزال). غير أن ذلك الحضور تبلور لأول مرة في حزب سياسي مستقل مع تأسيس البروفيسور نجم الدين اربكان لحزب النظام الوطني في سنة 1970، ثم حزب السلام الوطني، ومشاركة اربكان بصفته تلك في ثلاث حكومات، ترأسها مرة بولنت اجاويد اليساري، ومرتين سليمان ديميريل المحسوب على اليمين. وكانت تلك المشاركات، فضلاً عن التحولات التي شهدتها تركيا في الثمانينيات والتطورات العالمية في التسعينيات، هي التي فتحت الطريق للصعود التدريجي لثالث الأحزاب الإسلامية التي شكلها اربكان (الرفاه)، حتى فاز بالمرتبة الأولى في انتخابات البلدية عام 94، والنيابية عام 95. وهو الصعود الذي لم تحتمله أيضاً مراكز القوى العلمانية، بأذرعها العسكرية والإعلامية والاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تدخل القيادة العسكرية التي أرادت وضع حد لحضور اربكان وحزبه في الساحة السياسية، وهو ما دعا مجلس الامن القومي إلى القيام بانقلاب ابيض في 28 فبراير سنة 97، حيث اجتمع أركانه واصدروا عدة قرارات استهدفت وقف مختلف الأنشطة الإسلامية، وأجبرت نجم الدين اربكان على الاستقالة من رئاسة الحكومة (حكم القضاء بحل حزبه وسجنه لاحقاً). وبهذه الخطوة أسدل الستار - ولو مؤقتاً - على تجربة اربكان وحزبه في المسرح السياسي التركي. "5" هذه التحولات كلها كانت حاضرة في إدراك قادة حزب العدالة، الذين كانوا جزءاً منها في بعض مراحلها. وإذ تعلموا دروسها، واستوعبوا شروط النجاح والاستمرار في الساحة السياسية، فانهم حرصوا على أن يقدموا صيغة تصالحية بين الدين والعلمانية والديمقراطية. نجحت في استقطاب قطاع غير قليل من النخبة، وقطاع كبير من الجماهير، التي أعطتهم أصواتها وثقتها في الانتخابات. وحين اعتبروا أنفسهم حزباً محافظاً وديمقراطياً، فقد كان ذلك يعني مباشرة التزامهم باحترام القيم الأساسية في المجتمع التركي وفي مقدمتها الدين والعلمانية. وحين فعلوا ذلك فانهم استعادوا الركن المغيب في الهوية السياسية التركية، وهو الدين الذي نفته العلمانية الكمالية في مشروعها المهيمن منذ سبعة عقود. وفي حدود السقف المتاح، فان استدعاءهم للدين تم في الإطار الاجتماعي وليس السياسي. وبذلك فانهم قدموا المشروع الإصلاحي على الأيديولوجي، وهو ما يفسر تقليلهم من شأن معركة الحجاب التي افتعلها العلمانيون الغلاة، وانشغالهم عنها بمواجهة الأزمة الاقتصادية وتعزيز الحريات والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. اختم بملاحظتين تهماننا في العالم العربي، الأولى أن قادة حزب العدالة قدموا صيغة للعمل السياسي استخلصوها من خصوصية الواقع التركي، بشروطه وسقفه. تعاملت مع الحد الممكن وليس الحد الأقصى، ومع الحقائق وليس مع الأمنيات. أما الملاحظة الثانية فهي أن تطوير مشروعهم وإنضاجه لم يتم من خلال الجلوس على المكاتب او الحوار في القاعات المغلقة. لكنها أجواء الممارسة الديمقراطية رغم محدوديتها، هي التي أتاحت فرصة التطوير والإنضاج واكتساب الخبرات. وهو ما أسجله تعليقاً على الأصوات التي ترددت في بعض وسائل الإعلام داعية أصحاب المشروع الإسلامي إلى تطوير برامجهم وأفكارهم، متجاهلين الشرط الأساسي لإطلاق شرارة التطوير، وهو الممارسة التي وفرتها أجواء العافية الديمقراطية، وناسين أن الحصان ينبغي أن يوضع امام العربة لكي تسير، بل ان منهم من افترض أن العربة يمكن أن تسير بغير حصان!