تشيع تركيا اليوم في إسطنبول، مهندس "الإسلام السياسي"، وأبا الحركة الإسلامية فيها نجم الدين أربكان (85 عاماً)، الذي توفي ظهر الأحد، بسبب الضعف الذي انتاب قلبه. البروفيسور أربكان، الذي يعد "الأب الروحي"، لكل من رئيس الوزراء الحالي رجب طيب إردوغان، والرئيس التركي عبدالله غول، اللذين انشقا عنه بعد "اختلافات في سبر أغوار الحياة السياسية التركية"، التي سيطرت عليها العلمانية لعقود طويلة. أربكان الذي يستعد حزبه "السعادة"، لخوض الانتخابات المقبلة، لن يكون "حاضراً بكاريزميته القوية"، وهو ما دفع بأحد قيادات الحزب إلى "الخشية من تفجر الصراعات الداخلية بين القيادات"، ووفقاً لتقرير لشبكة "أون إسلام"، أشار المحلل السياسي التركي إسماعيل ياشا، إلى أن وفاة أربكان "خسارة كبيرة لحزب السعادة"، لأنه كان محل إجماع في الحزب، مبديا خشيته من أن يدخل رحيل أربكان الحزب في أزمات وصراعات داخلية. ولد أربكان في 29 أكتوبر عام 1926 في مدينة "سينوب" على ساحل البحر الأسود، وأنهى دراسته الثانوية سنة 1943، عرف بتوجهاته الإسلامية منذ الصغر. تخرج في كلية الهندسة الميكانيكية في إسطنبول سنة 1948، وكان الأول على دفعته. اشتغل معيداً في نفس الكلية وأرسلته جامعته في بعثة علمية إلى جامعة "آخن" الألمانية. عمل أثناء دراسته في ألمانيا رئيساً لمهندسي الأبحاث في مصانع محركات «كلوفز- هومبولدت - دويتز» بمدينة كولونيا. حين عاد إلى بلاده وكان أول ما عمله ولم يزل في عامه الثلاثين تأسيس مصنع «المحرك الفضي» مع نحو ثلاثمئة من زملائه، تخصص هذا المصنع في تصنيع محركات الديزل، وبدأ إنتاجها الفعلي العام 1960، ولا تزال هذه الشركة تعمل حتى الآن، وتنتج نحو ثلاثين ألف محرك ديزل سنوياً. أنشأ العام 1970 بتحالف طريقته النقشبندية برعاية شيخها محمد زاهد كوتكو، مع الحركة النورسية حزب النظام الوطني الذي كان أول تنظيم سياسي ذا هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة منذ زوال الخلافة العام 1924. بدأ أربكان حياته السياسية بعد تخرجه في كلية الهندسة، وأصبح رئيساً لاتحاد النقابات التجارية ثم انتخب عضواً في مجلس النواب عن مدينة قونية، لكنه منع من المشاركة في الحكومات المختلفة بسبب نشاطه المعادي للعلمانية، وكان تأسيس حزبه أول اختراق جدي لرفض القوى العلمانية المهيمنة له. لم يصمد حزبه (النظام الوطني) سوى تسعة أشهر حتى تم حله بقرار قضائي من المحكمة الدستورية بعد إنذار من قائد الجيش محسن باتور، فأسس أربكان، بدعم من التحالف ذاته، حزب السلامة الوطني العام 1972، وأفلت هذه المرة من غضب الجيش ليشارك بالانتخابات العامة ويفوز بخمسين مقعداً كانت كافية له ليشارك في مطلع العام 1974 في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى أتاتورك ليرعى المبادئ العلمانية. تولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء وشارك رئيس الحكومة بولند أجاويد في اتخاذ قرار التدخل في قبرص في نفس العام. حاول أربكان فرض بعض قناعاته على القرار السياسي التركي، وحاول ضرب بعض من أخطر مراكز النفوذ الداعمة للنهج العلماني، فقدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعاد لإسرائيل، ونجح في حجب الثقة عن وزير الخارجية آنذاك خير الدين أركمان بسبب سياسته المؤيدة لإسرائيل. حتى بعد خروجه من الحكومة قدّم حزب أربكان مشروع قانون إلى مجلس النواب في صيف العام 1980 يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل. كان أربكان من بين من دخلوا السجن آنذاك، وبعد ثلاث سنوات خرج في إطار موجة انفتاح على الحريات في عهد حكومة تورغوت أوزال، فأسس في العام 1983 حزب الرفاة الوطني، الذي شارك في انتخابات نفس العام لكنه لم يحصل سوى على 1.5% من الأصوات، إلا أنه نجح في الفوز بالأغلبية في انتخابات العام 1996 ليترأس أربكان حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة تانسو تشيللر. في العام 1998 تم حظر حزب الرفاه وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، ومُنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات، لكن أربكان لم يغادر الساحة السياسية، فلجأ إلى المخرج التركي التقليدي ليؤسس حزباً جديداً باسم الفضيلة بزعامة أحد معاونيه وبدأ يديره من خلف الكواليس، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضاً في العام 2000. ومن جديد يعود أربكان ليؤسس بعد انتهاء مدة الحظر في العام 2003 حزب السعادة، لكن خصومه من العلمانيين، تربصوا به ليجري اعتقاله ومحاكمته في نفس العام بتهمة اختلاس أموال من حزب الرفاه المنحل، وحكم على الرجل بسنتين سجناً وكان يبلغ من العمر وقتها 77 عاماً.