أمل حمدان - جدة يُعدُّ علي العماري من أبرز الشخصيات التي تركت بصماتها في مجال استقبال ومتابعة الحجاج في المملكة العربية السعودية. فبفضل قدراته العالية وكفاءته المتميزة، أصبح واحدًا من الشخصيات التي لا يمكن تجاهل دورها في هذا المجال الحيوي. لقد تمكن العماري من كسب ثقة المؤسس، الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، في مراحل مهمة من تطور المملكة، خصوصًا في تنظيم شؤون الحجاج وإدارة الأماكن المقدسة. من الحزم إلى القوة: عُرف علي العماري بقدرة فائقة على التعامل مع الأزمات وحل المشكلات بشكل سريع وفعال. فكان يتمتع بالحزم في اتخاذ القرارات وتنفيذها، مما أكسبه مكانة مرموقة بين أفراد الدولة. لم يكن اهتمامه ينحصر في تقديم الخدمات اللوجستية فقط، بل كان يسعى دائمًا لتحسين تجربة الحجاج في كل الجوانب؛ سواء كانت خدمات ميدانية، تنظيمية، أو إنسانية. هذا ما جعله شخصًا موثوقًا به من قِبل الملك عبد العزيز، الذي آمن بقدرته على التعامل مع أي تحديات قد تظهر في موسم الحج. دور العماري في تنظيم الحج: تجلى تأثير علي العماري في متابعة سير الحجاج وتنظيمهم، إذ كان يتولى مسؤولية التنسيق بين الجهات المعنية بتقديم خدمات الحجاج. تمثل ذلك في تنسيق حركة الحجاج بين مكةالمكرمة، المدينةالمنورة، والمشاعر المقدسة، مما جعل أداء الحجاج أكثر سلاسة وأمانًا. كان العماري على درجة كبيرة من الاهتمام بكل تفاصيل سير العمل في موسم الحج، مما جعل الجميع يعتمدون عليه في إدارة العمليات المعقدة خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة. استمرت جهود العماري في التطوير والنمو ليواكب التغيرات التي شهدتها المملكة، ليكون واحدًا من الأسباب الرئيسة في نجاح موسم الحج السنوي. كفاءته في العمل: ما جعله أكثر تميزًا هو فهمه العميق للأبعاد الدينية والثقافية والاجتماعية لموسم الحج. فقد كان يدرك تمامًا أن العمل في خدمة الحجاج ليس مجرد واجب تنظيمي بل هو مهمة روحية وعملية في ذات الوقت. عمله كان يهدف إلى تقديم راحة أكبر للحجاج، وساهم في جعل المملكة العربية السعودية مكانًا آمنًا ومريحًا للزوار. خلاصةحواري مع أحد أحفادة استنتجت أن شخصية علي العماري ليس مجرد موظف حكومي أو مسؤول حكومي عادي، بل كان عنصرًا أساسيًا في نجاح موسم الحج. قدراته، قوته، وحزمه ساعدت في تشكيل ملامح النجاح التي نشهدها اليوم في خدمة الحجاج. وبفضل جهوده، أصبح أحد الأشخاص الذين يمكن أن تُسند إليهم أصعب المهام في أي وقت، وبذلك كسب ثقة المؤسس الملك عبد العزيز وجعل تأثيره في التاريخ السعودي لا يُمحى. والشاهد على هذه الأمور التي هي صفات وُصِف بها علي العماري في خطاب وجهه الملك المؤسس إليه بشأن أعمال إدارية لكن الملك في ختام خطاب قال: «وبالله ثم بك كفاية». فهذا كلام الملك المؤسس في العماري بكفاءته في العمل الذي أُنيط به، ونرى ذلك أيضاً في وثيقة أخرى حينما أصبحت المدينةالمنورة تحت سيادة الملك المؤسس مع بقية أجزاء المملكة وذلك بتاريخ شعبان عام 1344ه، وهذا الخطاب مضمونه تكليف من الملك المؤسس إلى علي العماري بتسهيل درب المدينة، وقد وصل علي العماري إلى المدينة في 26 رمضان عام 1344ه بالسيارة حسب ما أمر به الملك المؤسس في خطاب آخر فيه تهنئة عبدالله السليمان إلى العماري بسلامة وصوله. وعلى تأكيد ثقة الملك المؤسس -رحمه الله- بعلي العماري يذكر الباحث عبدالله بن عبدالعزيز العماري عن جده قائلاً: «وبالتدرج في أخبار وعلاقة الملك عبدالعزيز بالعماري سنجد أن هذه العلاقة تزداد يوماً عن يوم ومع كل مهمة ينجزها بنجاح، كما نجد أن العماري يزداد قرباً من المؤسس، مع ذلك كله فلم تكن علاقة عمل فقط بل يمكن القول إنها علاقة شخصية كذلك، بحيث هناك مراسلات بينهما للسؤال عن الحال والأحوال والأهل دون دخول العمل فيها، وحتى الخطابات الخاصة بالمهام والتكليفات نجد بين ثناياها السؤال عن الحال». تجارة العماري: وأتى علي العماري من عنيزة إلى الحجاز في عام 1320ه ومن ذلك التاريخ وهو فيها، حيث انتقل هو وأخوه صالح إلى جدة، وقد بدأ حياته بالتجارة حيث تعلّم من والده فن التعامل التجاري، وكانت جدة هي ميناء الحجاز الرئيسي، وكانت نشطة تجارياً، وقد كان يشتغل بالاستيراد عن طريق السفن، لذلك أسس مستودعاً ضخماً لتخزين البضائع في جدة -كما يذكر الباحث عبدالله العماري في كتابه عن جده- وبهذا نال شهرة عند رجال المال والأعمال في جدة وخارج جدة ووثقوا فيه، ومن أساسيات التاجر الناجح المميز الثقة والأمانة؛ وهي تعني الثقة في تعامله مع الناس ورجال المال، ونالها علي العماري، وبهذا أصبح من رجال المال والأعمال في جدة وعرفه الناس وتوسعت تجارته خارج جدة وشملت مكةوالمدينة وشمال الحجاز والليث بل تعدت إلى الهند والعراق ومصر والكويت والبحرين. صاحب مكارم: وعلي العماري ليس تاجراً وحسب -وكما ذكرت كان إدارياً مالياً- كما بيّنت الوثائق التي ذكرتها، وأما الجانب الأخلاقي فهو صاحب مكارم؛ يروي المؤرخ الاجتماعي إبراهيم الحسون في مقاله بجريدة المدينة قصة بعنوان: «مواطن بطل حريق البنزين في جدة وحريق باخرة الحجاج اليمنيين -اسيا-»، والقصة هي احتراق الباخرة اسيا على بُعد عدة كيلومترات من جدة وذلك عام 1347ه شهر ذي الحجة؛ المهم شب حريق في الباخرة وكانت الباخرة تستعد للإبحار إلى عدن، وما أن علم نائب قائم مقام جدة بهذا الخبر المفزع حتى أمر على وجه السرعة بالزوارق واللنشات لإنقاذ من في السفينة من خطر الموت المحقق فنجى الكثير من الحجاج بحزم ونجدة علي العماري، كما أنه أمر بإحضار عشرين خياطاً لأجل إلباس هؤلاء الناجين من الغرق حيث كانوا عراة فتم ستر عوراتهم فكانت هذه النجدة مثار حديث الناس في جدة وهي من مكارم الشيخ علي العماري التي سطرها الحسون، ومن مآثره أيضاً حريق البنزين كما يذكر المؤرخ الحسون؛ فخلاصته أن الحكومة كانت تستورد البنزين عن طريق السفن وكان حفظ البنزين في صناديق من الخشب وكل صندوق فيه أربع صفائح من البنزين وكانت بجانب هذه الصناديق سكنى لبعض السكان من اليمنيين والأفارقة، وكانت مساكنهم عبارة عن مساكن من الأخشاب في غاية البساطة والفقر، فشب حريق في إحدى العشش وتسارع الحريق يلتهم هذه العشش، وكان الصيف حاراً وكانت الرياح مساعدة للحريق، فهي متجهة من الجنوب إلى الشمال ولما شاهد علي العماري الحريق وكان نائب قائم مقام جدة صرخ في الناس أن ينقلوا هذه الصناديق إلى مكان آمن وحدد لهم وهو الثكنة العسكرية «القشلة» والرياح كانت شديدة، مما ساعدت على انتشار النار في هذه المساكن الشعبية وفجأة تحولت الرياح من الشمال إلى الجنوب وقد قام هؤلاء الأبطال بنقل هذه الصناديق، ولولا عناية الله عز وجل ثم نجدة العماري وحث الناس على نقل الصناديق لأصبحت كارثة عظمى بهلاك مئات البشر؛ فهذا موقف عظيم من مواقف هذا الرجل الشهم أريحي الخلق، كانت مكارم الأخلاق تجري في عروقه، فكان يؤوي ويعين الحجاج الذين انقطعت بهم السبل ويوفر لهم الإمكانات لعودتهم إلى بلادهم لا يرجو بذلك إلاّ وجه الله تعالى. بناء مسلح: وبنى علي العماري قصراً خارج سور جدة وهو أول بناء مسلح في ذاك الزمن أواسط الأربعينات الهجري، وسمي المكان فيما بعد بحي العمارية على اسم باني القصر العماري، وهذا القصر كان يسكن فيه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- عندما يصل إلى جدة كان بناءً شامخًا صامداً طوال عدة عقود، وبه كان يدير علي العماري أعماله التجارية ويستقبل ضيوفه من داخل المملكة وخارجها، فكانت هذه الدار دار ضيافة لمن زار صاحبها الكريم العماري، الجدير بالذكر أن القصر سكن فيه ملك الأفغان عندما زار المملكة، وسكنه النائب العام للملك الأمير فيصل -الملك فيما بعد- كما ذكر كل هذا الباحث عبدالله العماري في كتابه وقفة تأمل وذكر أيضاً أن الأمير فيصل نائب الحجاز كان ينزل فيه لمتابعة إدارة الدولة فهو لهذا كان قصراً له أهميته التاريخية في مدينة جدة الذي ينبغي أن تتولى وزارة الثقافة والآثار العناية به وترميمه. ختام المشوار: وبتاريخ 22 / 9/ 1394ه في شهر رمضان في العشر الأواخر في ليلة مباركة وإحدى الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر فاضت روح علي الناصر العماري -رحمه الله- بعد أن بلغ أكثر من تسعين عاماً عاش معظمها في مدينة جدة، فقد كان ملء السمع والبصر طيلة حياته الحافلة بالأعمال المشرفة سواء مع الملك المؤسس وأبنائه الملوك أو مع جمهور الناس حتى لُقِّب بأبي المساكين، وهو لقب جليل القدر، ولم يكن يأتي من فراغ بل كان له واقعاً من جراء مكارم أخلاق وشيم راقية اتصف بها العماري والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. أشكر الباحث عبدالله بن عبدالعزيز العماري على تزويدي بكتابه المخطوط بعنوان: (وقفة تأمل في وثائق جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك والأمراء إلى الشيخ علي الناصر العماري) الذي كان تعامله راقياً معي في كل استفسار عن جدّه علي العماري .