مرت على شبه الجزيرة العربية عامة والحجاز خاصة أطوار سياسية وأمنية متعددة ومتنوعة لم تشهد فيها أي نوع من أنواع الاستقرار والأمن إلا لفترات زمنية قصيرة، ومنذ دخول العثمانيين مصر عام 923ه /1517م بادر أمير مكة الشريف بركات بإرسال ابنه أبي نمى إلى مصر حاملاً مفاتيح الحرمين الشريفين، ومقدماً معها الولاء للسلطان العثماني سليم الأول 918-926ه / 1512-1520م، فقابلة السلطان بالحفاوة والترحاب وأصدر فرماناً بتفويض الشريف بركات في حكم الحجاز، هكذا دخلت الحجاز تحت حكم العثمانيين وأصبحت خطبة الجمعة تقرأ باسم السلطان العثماني ثم أمير مكة من بعده، حيث أبقى العثمانيون على نظام الشرافة وكل ما كان يفعله السلطان أن يرسل فرماناً يحدد فيه اختصاصات الشريف الجديد وواجباته. في عام 1805م دخلت القوات السعودية مكةالمكرمة وأمنت الناس على أرواحهم وممتلكاتهم يعد الاهتمام بالحجاز خاصة بالحرمين الشريفين من السمات التي حافظ عليها الملوك والسلاطين الذين تولوا حكم الحجاز، خاصة السلاطين العثمانيون الذين أوقفوا الأموال وأغدقوا العطايا، فنجد أن منطقة الحجاز انفردت دون بقية الولايات العثمانية بعدة امتيازات في مقدمتها الإعفاء من تقديم أية ضريبة سنوية للدولة العثمانية، بالإضافة إلى ما كان يُرسل للحجاز من أموال ضخمة وهي عبارة عن حصيلة الأوقاف الموقوفة على الحرمين الشريفين، وفقراء مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة. فنجد السلطان سليم الأول أوقف ربع ما كان يُجبَى من مصر على الحجاز، كما أوقف خراج اليونان بعد فتحه على الحرمين الشريفين. وأمر كذلك أن تتحمل ولاية مصر كافة الالتزامات القديمة والمستحدثة والتي يطلق عليها (الصرة) وتُرسل مع قافلة الحج المصري، وكان إرسال الصرة من أهم واجبات الوالي في مصر ويحاسب عليها إذا قصر في إرسالها، كما تم إعفاء أهل الحجاز من التجنيد. أصبحت الحاميات السعودية توجد في كل مدن الحجاز ودخلت البقاع المقدسة في ولاية الدولة السعودية فاستتب الأمن في الحجاز وتحقق بذلك الأمن للحجيج الإجراءات الأمنية لحماية طرق وقوافل الحج ما بين ثلاثين إلى خمسين ألفاً من الحجاج، كان السلطان العثماني يشرف بنفسه على ترتيب هذه القافلة وإعدادها وخروجها من إستانبول، ونظراً لكثرة الاعتداءات التي كانت تتعرض لها قافلة الحج الشامي من قبل العربان، قررت الدولة العثمانية أن يتولى والي الشام إمارة الحج في كل عام، وأصبح باشا الشام يجمع بين منصبي والي الشام وأمير الحج الشامي قرابة قرنين من الزمان، وتقطع هذه القافلة الطريق التجاري حتى تصل إلى دمشق وتواصل سيرها عبر صحراء مزريب إلى مدائن صالح حتى تصل إلى المدينةالمنورة. قافلة الحج العراقي كانت تتكون هذه القافلة من حجاج العراق وفارس وتسلك الطريق الذي يعبر جزيرة العرب (درب زبيدة - الكوفة - مكةالمكرمة) وكثير من حجاج فارس والخليج العربي واليمن كانوا يفضلون طريق البحر. قافلة الحج اليمني كانت تشمل هذه القافلة حجاج اليمن والهند وماليزيا وإندونيسيا، وينضم إليهم حجاج الحبشة والصومال والأفارقة الذين يصلون إلى مصوع وسواكن ومواني اليمن. وكان خروج هذه القافلة متقطعاً حتى ألغيت عام 1635/1045م، عندما استقل اليمن بزعامة الأئمة الزيديين عن الحكم العثماني، وكان اليمن بذلك أول ولاية عربية تخرج عن السلطة العثمانية. تأمين طرق الحج اتخذت الدولة العثمانية من جانبها مجموعة من الإجراءات لتأمين طرق الحج وقوافله، ولعل أهمها ما يلي: أمير الحج كان يخرج على رأس كل من هذه القوافل أميراً يسمى بأمير الحج، وهو المسؤول الأول عن أمن وسلامة الحجيج في ذهابهم إلى الحرمين الشريفين وإيابهم وعودتهم سالمين إلى ديارهم. وكانت تصحبه قوة عسكرية يقودها في الغالب أحد كبار العسكريين ويسمى (بسردار الحج) وكثيراً ما كان أمير الحج يتولى قيادة الجيش المرافق للقافلة، وخاصة قافلة الحج الشامي التي جرت العادة أن يتولى والي الشام بنفسه إمارة الحج وكان الوالي يسلم مهام القافلة لأمير الحج ويتم الإشهاد على ذلك من قبل القاضي والأمراء على تسلم أمير الحج كل ما يتعلق بالقافلة وكذلك مخصصات الحرمين الشريفين سواء كانت عينية أو نقدية. الحاميات العسكرية كانت تصاحب قوافل الحج حاميات عسكرية تتكون من نوعيات مختلفة من رجال الأوجاقات العسكرية العثمانية. فقافلة الحج المصري كان يصحبها نحو سبعة سادرة يقودون نحو خمسمائة جندي للقيام بعمليات الحراسة وتأمين وصول الحجيج، كما كانت الإدارة العثمانية ترسل في مصر حملتين عسكريتين لتعزيز حراسة الحجاج أثناء عودتهم أحدهما تذهب إلى الأزلم وقوامها ثلاثمائة رجل والأخرى تذهب إلى العقبة نحو ألف رجل لمقابلة الحجاج، وكانت الخزينة المصرية تتحمل نفقات سفر الحملتين ما قيمته (19350) بارة لتأجير الجمال والإمدادات الأخرى للحملتين. القلاع والحصون اهتمت الدولة العثمانية بإنشاء القلاع والحصون العسكرية وترميمها على طول طرق قوافل الحج وشغلها بالعسكر طوال العام، خاصة أثناء موسم الحج؛ ولذلك لقمع غارات العربان وأن تكون مركزاً لتخزين المؤن والمياه التي تحتاجها القوافل، فقامت بترميم الكثير من الحصون والقلاع القديمة وإدخال التحسينات على البعض الآخر، أو إنشاء قلاع وحصون جديدة خاصة على ساحل بلاد الشام وعلى امتداد طريق الحج الشامي الذي يبدأ بدمشق وينتهي بالمدينةالمنورة على الرغم من هذه الجهود كلها استمرت أعمال السلب والنهب والتعديات على الحجاج وقوافلهم قبل وبعد دخول الأراضي الحجازية. فكثير من الحجاج فقدوا حياتهم في هذه الرحلة المباركة. ويصف البتنوني في رحلته ذلك بقوله: «وكانت طريق الحج إلى بيت الله الحرام كلها مشقات وأخطار في الزمن السابق بما كانت تلقيه يد الطبيعة في سبيلهم من الشدائد الطبيعة التي كانت تفتك بسوادهم في الطريق من حر الصيف وبرد الشتاء أو جفاف ماء الآبار في هذه الصحراء المحرقة. وبجانب هذه الشدائد الطبيعية كثيراً ما كانت توقع بهم يد أشرار الأعراب، وغالباً ما كانت تشتتهم يد الفوضى وتعرضهم حال الضعف للنهب والسلب كل ذلك يحصل لحجاج بيت الله الحرام والناس لا يمنعهم عنه مانع. ولم يسمع أنهم انقطعوا عنه من أنفسهم في سنة من السنين إلا أيام القرامطة التي كانت مقطوعة عليهم. وكان الحاج في الماضي يقطع طريق جدةمكة خلال يوم أو يومين أما سيراً على الأقدام، أو ركوباً على الجمال والبغال والحمير والخيول. والطريق بين جدةومكة وادٍ رملي إلا في موضعين منه؛ حيث يوجد حصى صغير وكبير الحجم، ولكن ذلك لا يشغل من الطريق إلا نحو نصف ميل. وقبيل مكة بنحو أربعة أميال كان يوجد مدرج حجري مرتفع قليلاً، ثم بعده يستوى الطريق وإن كان حجرياً، وتكثر فيه التعرجات حتى يُخيل إلى الناظر أن الطريق مسدود لاقتراب الجبال المواجهة، والوادي يحفه من الجانبين الجبال والتلال التي تارة تتقارب فيضيق الوادي، وتارة أخرى تتباعد فيتسع، وتوجد أيضاً مجموعة من القلاع في جانبي الطريق، وكان يقيم بها في العهد العثماني الجنود الأتراك لحماية الحجاج وأمن الطريق من تعديات الأعراب وغاراتهم على الحجاج، وقطاع الطرق. وكان الحجاج يواجهون العديد من المتاعب والصعاب أثناء الطريق، منها ما كان يواجههم من قبل الأعراب الذين يقطنون على طول الطريق، أو الجمالة، بجانب الظروف الطبيعية من حر وفقر في الماء. فكثيراً ما يغرر الجمالة بضعاف الحجاج فيأخذون الأجرة منهم ويخبرونهم بأن الجمال خارج البلد ويرجونهم في أخذها من هناك حتى يوفروا عليهم دفع (القوشان) فإذا خرج الحجاج المساكين من مكة لا يجدون إلا جمالاً ضعيفة ضئيلة ينالهم منها مشقات جسيمة وكثيراً ما يتركونها ويسيرون على أقدامهم جل مسافة الطريق أو كلها. وفي بعض الأحيان يقطع الجمالة حزام الجمل فيقع راكبه ويتأخر عن القافلة حتى يصلح الحزام، وربما انتهزوا فرصة الانفراد به وقتلوه، أو سلبوه متاعه، وكثيراً ما يجهزون عليهم ويفرون بجمالهم إلى حيث أرادوا، وتارة أخرى يؤخرون الجمل عن القافلة بحجة أن الرحل في حاجة إلى إصلاح ويريدون بذلك فرصة للفتك به. الدولة السعودية الأولى أمنت الطريق أما عن جهود الدولة السعودية الأولى في أمن طرق قوافل الحج، فقد بذلت الدولة السعودية منذ أن دخلت الحجاز تحت سيطرتها جهودًا كبيرة من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن لقوافل الحج، فقد بذل الإمام سعود بن عبدالعزيز جهوداً كبيرة من أجل تأمين الأمن لقوافل الحج بعد دخولها الأراضي الحجازية وفي سبيل ذلك اتخذ مجموعة من الإجراءات وهي ما يلي: 1 - الخروج سنوياً لأداء مناسك الحج وسط جمع غفير من أهل نجد، وكانت تصحبه قوة عسكرية من أجل القضاء على قطاع الطرق، وحفظ الأمن أثناء أداء المشاعر المقدسة لمناسك الحج وإحكام السيطرة على الحجاز (مكةالمكرمة - المدينةالمنورة)، حيث أصبح الإمام سعود الحاكم الفعلي على الرغم من وجوده لفترات في نجد، إلا أن قوة شخصيته جعلته يُحكم قبضته على إدارة الحرمين الشريفين. لذا قلّت بشكل كبير أعمال السلب والنهب التي كان تتعرض لها قوافل الحج في الماضي. وإصلاح وترميم العديد من الحصون والقلاع التي كانت موجودة على طريق (جدة - مكة) و(مكة - المدينةالمنورة). 2 - استمالة الكثير من القبائل التي كانت تقطن على طول طرق الحجيج بإغداق العطايا والهبات مقابل عدم التعدي على ركب الحجيج، أو بالحزم والشدة تارة أخرى. وصار البدو على طريق المدينة يخشون القرب من قوافل الحج بعد أن كان الحجاج يهابونهم، فإذا نزلت القافلة على منهل للاستراحة أثناء النهار وإذا ما أراد أحدهم بيع سلعة كالحطب أو الماء وما شابه ذلك لا يجرؤ على القرب من منزل القافلة بل ينادي على سلعته من بعيد، وإذا رغب أحد الحجاج في شراء شيء دعاه إليه دون القرب من المنزل، خشية أن يضيع على أحد الحجاج شيء من متاعه فيتهم به. القبائل ودورها في أمن الحج في الحقيقة لعبت القبائل العربية الواقعة على طول طرق الحج دوراً مهماً في أمن الحجاج سواء كان دوراً إيجابًا أو سلبًا، وتعد مشكلة هجمات بعض القبائل العربية والعربان المنتشرين على طول طرق الحج من أعقد المشكلات التي واجهت أمراء الحج وأمراء مكة، فكثيراً ما تعرضت قوافل الحج لأعمال السلب والنهب من قبل بعض هذه القبائل. ويرجع البعض تلك الاعتداءات إلى مجموعة من الأسباب أهمها ما يلى: نظرة معظم القبائل للعثمانيين على أنهم مغتصبون لأراضيهم، ضعف الإدارة العثمانية في إحكام قبضتها على الحجاز والحرمين الشريفين، الامتناع عن دفع الإتاوات السنوية المقررة للبدو على طريق الحج في بعض الأحيان، قلة خبرة أمير الحج في بعض الأحيان أو طمعه في الأموال المرسلة من قبل الدولة العثمانية للقبائل والعربان أو التعامل بشدة في بعض الأوقات مع هؤلاء، وهذا ما كان يدفعهم للاعتداء على قوافل الحج. حاولت الدولة العثمانية من جانبها أن تكسب ود تلك القبائل من خلال تخصيص صرة للقبائل البدوية، وذلك مقابل خدمات يقدمونها للحجاج مثل حراسة الحجاج وتقديم الجمال والبغال لنقل الحجاج وتقديم المؤن على الرغم من كل هذه الجهود التي بذلتها الدولة العثمانية لتأمين طرق قوافل الحج ظلت تتعرض لاعتداءات، وهذا ما يؤكد عدم استتباب الأمن بصورة منتظمة على طرق قوافل الحج والبقاع والمشاعر المقدسة، ولعل ذلك يرجع إلى مجموعة من العوامل منها عدم تطبيق حدود الشريعة الإسلامية، الحكم الثنائي المزدوج الذي خضع له الحجاز. برزت قوة الإمام سعود وحزمه في التعامل مع الخارجين عن الشرع الحنيف. واستطاعت بذلك الدولة السعودية أن تكسب ود معظم القبائل التي كانت تقطن الأقطار الحجازية وبذلك استطاعت الدولة السعودية الأولى خلال فترة حكمها القصيرة أن تكسب ود غالبية القبائل العربية الموجودة في شبه الجزيرة العربية عامة والحجاز خاصة مما سهل عليها بسط سيطرتها ونفوذها على أراضيها. الأمن في مكةالمكرمة والمشاعر المقدسة لم تشهد مكةالمكرمة استقراراً سياسياً طويلاً خلال فترة الحكم العثماني، حيث سادت حالة من عدم الاستقرار بسبب الصراعات التي ذكرت سالفاً. فنجد تلك الفترات قبل الدولة السعودية الأولى اتسمت بالفوضى وعدم الاستقرار، حيث انتشر قطاع الطرق وعمليات السلب والنهب لحجاج بيت الله الحرام، حتى ألزم كل من يسير في الطرق المؤدية إلى مكة بدفع ضرائب للقبائل الواقعة على طول تلك الطرق. لكن الوضع تغير تماماً بعد دخول الحجاز تحت حكم الدولة السعودية الأولى على أثر الانتصارات الكبيرة التي حققتها قوات الإمام سعود على قوات الشريف غالب والتي تكبد خلالها خسائر فادحة جعلته يطلب الصلح من الإمام سعود، وذلك من خلال وفد أرسله إلى الدرعية يطلب فيه الصلح معلناً ولاءه لابن سعود عام (1220 ه - 1805م). وعلى أثر هذا الصلح دخلت القوات السعودية مكةالمكرمة (1220ه / 1805م) معلنة الأمان للناس على أموالهم وأرواحهم وقامت بأداء مناسك العمرة، وهكذا أصبحت مكةالمكرمة والحجاز بكاملها جزءاً من الدولة السعودية الأولى بعد أن أعلنت المدينةالمنورة في العام نفسه ولاءها للإمام سعود. أمر الإمام سعود بمنع المنكرات والتجاهر بها، وبملازمة الصلوات في الجماعة، ودفع الزكاة، وترك لبس الحرير والمظالم واتباع ما أمر الله تعالى به من إخلاص التوحيد له وحده، واتباع سنة رسوله وما كان عليه الخلفاء الراشدون والصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون، وترك ما حدث في الناس من الالتجاء لغير الله من المخلوقين الأحياء والأموات في الشدائد والمهمات، وما أحدثوه من بناء القباب على القبور والتصاوير والزخارف، وتقبيل الأعتاب والخضوع والتذلل والمناداة والطواف، والنذور والذبح والقربان، وعمل المواسم والأعياد لها، ليكون الدين كله الله، فعاهد على منع ذلك كله، وعلى هدم القباب المبنية على القبور والأضرحة؛ لأنها من الأمور المحدثة، لذلك انخفضت الأسعار، وكثر وجود الطعام وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والسمن والعسل، حتى بيع الأردب من الحنطة بأربعة ريال. وفي الحقيقة أن الإمام سعود سعى منذ الوهلة الأولى لدخوله مكة لتحقيق مظاهر السيادة الفعلية على مكةالمكرمة والحجاز من خلال أخذ البيعة من الأعيان والأهالي في مكة، ومن القبائل المجاورة، وذلك من أجل نشر الأمن والاستقرار في تلك البقاع كما هو الحال في بقية المناطق الخاضعة للدولة السعودية الأولى. وحرص الإمام سعود على التواصل مع القبائل الواقعة على الطرق البرية الموصلة إلى مكةالمكرمة وإغداق العطايا والهدايا والهبات لهم مع أخذ العهد بعدم التعرض لزوار بيت الله الحرام بأذى أو مكروه وعدم مطالبتهم بدفع أية ضرائب أو مكوس نظير مرورهم عبر أراضيهم مع تهديهم أن من يخالف ذلك سيعرض نفسه لأقصى العقوبات التي فرضها الشرع الحنيف على من يروع حجاج بيته الحرام. على الجانب الآخر تواصل الإمام سعود مع أمراء المدن ورؤساء العشائر التي تطل على البحر الأحمر من أجل تأمين الحجاج القادمين عبر البحر منذ وصولهم إلى الميناء حتى دخولهم مكة، ما أدى إلى زيادة أعداد الحجاج القادمين لزيارة بيت الله الحرام وتوافر السلع التجارية، وكان نتيجة ذلك أن أمنت السبل ورخصت الأسعار وعم الخير ربوع البلاد. كما اهتم الإمام سعود بتوفير مياه الشرب لأهل مكةالمكرمة وحجاج بيت الله الحرام، فمن المعروف أن مكة تعرضت لسيل كبير عام (1208ه -1794م) أدى إلى تخريب قنوات عين زبيدة مما أدى إلى انقطاع المياه عن مكة. وهذا ما دفع أمير مكة الشريف غالب (1202- 1228ه / 1787-1813م) إلى ترميمها، وحينما دخل الإمام سعود مكة أولى عيون المياه اهتماماً بالغاً من خلال أعمال الترميم والصيانة بشكل منتظم باعتبارها المصدر الرئيس للشرب في مكة. وحرص الإمام سعود كذلك على أن تكون خطبة الجمعة في المسجد الحرام شاملة لما يحتاج إليه الناس من إرشاد وإصلاح وتهذيب للنفوس وتحقيق الأمن والعدل الشامل والمساواة بين الناس، وتوحيد الصلاة في المسجد الحرام خلف إمام واحد بعدما كانت تقام أربع صلوات وفقاً للمذاهب الأربعة. وقام الإمام سعود بتعيين مجموعة من الوعاظ في وظائف الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة الأسواق ومنع البدع مثل محمل الحج، والذي كان يتسبب في إحداث الفوضى وضياع حرمة المشاعر المقدسة؛ وذلك لما يصحبه من طبل وزمر كان يسير وراءها العديد من الحجيج في شكل مجموعات مرددين تلك الأناشيد بدلاً من انشغالهم بذكر الله وأداء مناسك الحج في هدوء تام. ظل حكم آل سعود في مكة نحو سبع سنوات وشهرين، وكان الإمام سعود يحج سنوياً على رأس ألوف من أتباعه وذويه من سائر بلاد نجد تتبعهم عائلاتهم، وكانت جيوشه من سائر الأقطار التي يحكمها في الأحساء ومسقط وعسير والحجاز وبعض بلاد اليمن. وكان يقدم الصدقات إلى فقراء الحرمين، ويبذل العطايا ويكسو الكعبة سنوياً بالقز الأحمر والقيلان الفاخر ويطرز ستارة بابها بالذهب والفضة، وكان المكان المفضل للإمام سعود بالمسجد الحرام هي قبة زمزم يؤدي فيها صلاته في موكب حافل من حاشيته، وفى آخر حجة للإمام سعود عام (1225ه / 1810م) أمر بكشف القبة التي فوق مقام إبراهيم حتى صار الحجر بارزاً لكل من يراه. استباب الأمن كما يصف الحال ابن بشر، فلما تم الأمر لآل سعود في جميع أنحاء الحجاز خلال الفترة (1221 - 1227ه / 1806-1812م) أصبحت الحاميات السعودية توجد في كل مدن هذا الإقليم، ودخلت البقاع المقدسة في ولاية الدولة السعودية فاستتب الأمن في الحجاز، وتحقق بذلك الأمن للحجيج. هكذا لم تتغير سياسية الإمام سعود في مكة خلال حكم الدولة السعودية الأولى، والتي ساعدت على زيادة قوافل الحج، حيث أصبحت طرق الحج المؤدية إلى الحرمين الشريفين آمنة للحجاج والمعتمرين، وذلك بفضل الله ثم بفضل السياسة الحكيمة التي كان يسير عليها الإمام سعود في إدارة الدولة السعودية المبنية على تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وضرب كل من تسول له نفسه المساس بأمن البلاد وسلامة حجاج بيت الله الحرام بيد من حديد، فانتشر الأمن وتوافرت المواد الغذائية بعد أن كانت صعبة المنال. الأمن في المدينةالمنورة والمشاعر المقدسة لقد أولى الإمام سعود بن عبدالعزيز المدينةالمنورة اهتماماً كبيراً بعد أن دخلت تحت حكمه فعلياً (1220ه - 1805م) وقام باتخاذ مجموعة من الإجراءات التي من شأنها تنظيم الشؤون الإدارية والمالية والعسكرية للمدينة المنورة لتسهيل زيارة الحرم المدني لحجاج بيت الله الحرام فبعد أن فرغ الإمام سعود بن عبدالعزيز من أداء مناسك الحج عام (1221ه / 1806م) ذهب إلى المدينةالمنورة في آخر ذي الحجة لزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام بترتيب الأوضاع الداخلية للمدينة المنورة. أما الشأن الديني للمدينة المنورة فقد أولى الإمام سعود الحرم المدني جل الرعاية والاهتمام من خلال تنظيم شؤونه لتسهيل زيارته لحجاج بيت الله الحرام، حيث إن الإمام سعود حارب كل البدع والأمور الخارجة على الشرع الحنيف بكل حزم مثل أمره بهدم القباب التي كانت مبنية على القبور والمشاهد في المدينة، وأيضا مسألة محمل الحج. هكذا استتب الأمن في المدينةالمنورة بعد أن دخلت تحت حكم الدولة السعودية الأولى، وكذلك طرق قوافل الحجيج وخاصة التي بين مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة. الدولة العثمانية نظرت الدولة العثمانية إلى الدولة السعودية الأولى نظرة الثائرين المتمردين الذين شقوا عصا الطاعة على الدولة، وهذا ما دفع الدولة العثمانية أن تطلب من سيلمان باشا والي بغداد بشن الحرب على الدولة السعودية الأولى وأصدرت إليه الأوامر بالتحرك إلى الدرعية، وتوجه سيلمان باشا إلى الأحساء عام (1213ه / 1798م) ولم يفعل شيء سوى أنه أبرم الصلح مع الإمام عبدالعزيز وعاد إلى بغداد دون قتال، وكانت هناك محاولة أخرى عام (1214ه / 1799م) من عبدالله باشا والي الشام لمحاربة السعوديين في الدرعية لكنها فشلت. وإزاء التوسعات الكبيرة للدولة السعودية الأولى، حيث إنها بحلول عام 1805م كانت قد ضمت الطائفومكةالمكرمةوالمدينةالمنورة وغيرها من مدن الحجاز الأخرى فهال الدولة العثمانية هذا النجاح العسكري الذي حققته الدولة السعودية الأولى وإعلان الإمام سعود بن عبدالعزيز زوال السيادة العثمانية على الحجاز، وإزاء عجز الدولة العثمانية عن تسيير جيش عثماني لاسترداد الحجاز بسب كثرة مشكلاتها الداخلية والخارجية واشتعال نيران العصيان والتمرد في كثير من أنحاء الإمبراطورية وحروبها مع روسيا والنمسا والبندقية، ولم يجد السلطان العثماني بدأ من الاستعانة بوالي مصر محمد علي باشا للقيام باسترجاع الحجاز للسلطة العثمانية، وكلفه بإرسال حملة إلى الحجاز. بادر محمد علي باشا إلى إجابة أمر السلطان العثماني إذ وجد في ذلك فرصة مناسبة لتحقيق طموحه الحربي والسياسي في الاستقلال بمصر ووضع نواة لأسطول حربي، والتخلص من الجنود الألبان والأرنوود وكذلك الحصول على الأموال التي يحتاجها بحجة لزومها لنفقات الحرب، كما أنه من الممكن أن تجمع هذه الحرب قلوب المسلمين في العالم على حبه وولائه بصفته منقذ الحرمين ومعيد مناسك الحج. سيّر محمد علي جيشاً عدته أربعة عشر ألفاً من الجنود من الأتراك والألبان إلى الحجاز عام (1226ه - 1811م) بقيادة ابنه طوسون ووصل إلى ينبع، ولما علم الإمام سعود بذلك أخرج ابنه عبدالله لقتاله وانهزم طوسون بجيشه عند تربة، وتقهقر إلى ينبع وأرسل إلى أبيه محمد علي يطلب العون والمساعدة. وفي العام التالي (1227ه - (1812م) وصلت المساعدات من محمد علي إلى ابنه طوسون فأعاد الكرة للاستيلاء على المدينةالمنورة، وضم إلى جيشه كثيرًا من عرب جهينة وحرب. وحاصر المدينة لمدة خمسة وسبعين يوماً ونصب على قلعة المدينة المدافع، وحفر السراديب وأشعل البارود تحت الأسوار وقطع المياه، وانتشر الوباء في المدينة، وقيل إنه مات من أهل المدينة أربعة آلاف جراء هذا الوباء، ودخل طوسون المدينة (1227ه - 1812م) وبعدها بعام دخل جدةومكةالمكرمة، ومن ثم خضع الحجاز كله لسلطة محمد علي وتم القبض على الشريف غالب وتم إرساله إلى مصر وتم حجز ما كان من خزائن غالب والفضة، وإخراج حرمه من قصر جياد، هكذا كانت الظروف السياسية التي مرت على الدولة السعودية الأولى لها أبلغ الأثر في عدم الاستقرار السياسي في منطقة الحجاز، بل إن تلك الظروف نفسها ساعدت بشكل كبير على تقويض أركان الدولة السعودية نفسها بدخول إبراهيم باشا وتدميره للدرعية في الفترة من (1233- 1238ه / 1818-1822م) وهذا كله كان له أثره على أمن الحج. المصدر: أمن الحج في الدولة السعودية الأولى، تأليف: خالد مكرم فوزي.