عندما ضم الملك عبدالعزيز -رحمه الله- الحجاز إلى بقية أجزاء المملكة عام 1343ه وبعدها مدينة جدةوالمدينة عام 1344ه؛ انضم إلى الملك عبدالعزيز رجال من أهالي الحجاز ومن أناس كانوا قد استقروا في الحجاز وهم في الأصل من نجد، ليعملوا معه، وكان أكثر ما اهتم به الملك عبدالعزيز وحرص عليه التنظيم الإداري والمالي، ويأتي في هذا الأمر الحج في عام 1343ه التي أصبحت الحجاز تحت حكم الملك عبدالعزيز، فهي أول سنة يدار فيها الحج تحت إشراف المؤسس، وهنا نقرأ وثيقة تاريخية مهمة وجهها الملك عبدالعزيز سنة 1343ه إلى القيادي علي الناصر المحمد العماري -رحمه الله- بشأن تنظيم الحجاج القادمين، سوف نتطرق إلى هذه الوثيقة ووثيقة أخرى عن انتهاء موسم الحج، وسنكشف عن حياة العماري وسيرته عبر الأسطر القادمة. هو الإداري الأمين علي بن ناصر بن محمد العماري -أسرة العماري هي في الأصل من مدينة عنيزة- ولد في عام 1303ه في عنيزة، وتعلّم في مصادر التعليم الموجودة في عنيزة وهي الكتاتيب، هذه الكتاتيب التي تخرّج منها العلماء والأدباء ورجال المال والأعمال والوجهاء، فهي الحاضنة الأولى لهؤلاء. وبما أن العماري من أهالي نجد فقد كان يتابع الملك المؤسس إبان توحيد أجزاء المملكة في وقت مبكر جداً، ففي عام 1327ه بعد ضم بلدة الحريق نشر الباحث عبدالله بن عبدالعزيز بن علي العماري وثيقة في كتابه المخطوط بعنوان: (وقفة تأمل في وثائق جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك والأمراء إلى الشيخ علي الناصر العماري)، ومنه استفدت في كتابة سيرة العماري، وقد حشد فيه الكثير من الوثائق الخاصة بالعماري الموجهة إليه، وأهمها التي من المؤسس. تنظيم الواردين ولنبدأ بهذه الوثيقة: «من عبدالعزيز العبدالرحمن الفيصل إلى جناب الأخ المكرم علي الناصر العماري سلمه الله تعالى السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد لابد واصلكم مأمور التأشير على الجوازات الحجاج ومعه دفاتر طبعت خصيصاً لهذه المسألة كما ترون نمونتها بطيه، ومنها تفهمون أن القصد هو تنظيم مسألة الواردين من الحجاج ومعرفة هويتهم وتابعيتهم وعددهم وغير مما هو معرفته ضرورية لأجل ضبط الشغل، ويوضع على الباص الذي بيد الحجاج طابع بعشرة قروش ويعطى ورقة مرقمة من هذه الدفاتر ويصل إلى طرفكم معهم شخصين وثلاث مأمورين لأجل تعريف الحجاج عند نزولهم بما يحتاجون إليه بواسطة الترجمة والتعارف بينكم وبينهم ولقضاء لوازمهم، وأيضاً شخص آخر مندوب من قبل جمعية المطوفين ليستشير بحرية كاملة للحجاج الأشخاص المطوفين الذين يرغبون مرافقتهم بالتطويف وغيره، ولكن الحذر من استعمال أساليب غير مشروعة في انتقاء المطوفين فنزول الحاج بالرغبة والحرية الكاملة في انتقاء المطوفين ويكون مأمور التأشير مع أنه مأمور بريد في الوقت نفسه والترجمة ومندوب المطوفين تحت نظارتكم فأنتم المسؤولون عن أعمالهم كما أنهم مسؤولون تجاهنا في حساباتهم وتصرفاتهم ويوكل أمر الكراوي على اختلاف أنواعها في البر والبحر لنظركم بعد الاتفاق أنت وابن مبيريك وشيخ المطوفين، ولا تتخذوا أمر إلاّ بعد المشاورة والاتفاق ثم في النظر إلى بعد المينا عن البلد لابد من إنزال الحجاج إلى البر في الصباح أو المساء اتقاء ضرر الشمس ثم يجب أن يكون مع كل عشرين جمل خادم خاص غير الجمال تقطعون له أجرة زهيدة من الجمال ويكون مساعد للجمال أثناء الطريق ثم أن يعين مطوف الحجاج قبل وصولهم إلى مكة، بعد ترك الخيار التام كما ذكرناه أعلاه للحاج وتمضي الورقة المتعلقة بذلك منكم ومن خادم الحكومة الترجمان ومن مندوب رئيس المطوفين وترسل الورق إلى مكة قبل الحاج لأجل التنبه للمطوف للقيام بوظيفته، فيجب أن يكون مع كل قافلة رجال مسلحون معينين من ابن مبيريك للمحافظة على الحجاج ومراقبة الجمالة أثناء سيرهم كي لا يسلكوا طريق آخر غير معروف، ثم يجب عليك وعلى ابن مبيريك حتى نزول الحجاج في البغيلة ورابغ أن تأمروا بإحضار باعة المأكل والمشارب للحجاج، ثم يجب أن تنبهوا على الجمالة والمطوفين أن لا يأخذوا شيئاً من الحجاج على طريق الاختلاس والجبر غير الذي تقرر لهم، ولكن تترك مسألة السماح للحجاج بتقديم العطايا وإعطاء المنح والمكافآت وسواها بما يجودون بسماحة خاطر بهذا ما لزم تعريفه ودمتم محروسين 6 ذي القعدة لعام 1343ه». راحة الحجاج وهناك وثيقة أخرى تعبر عن أهمية راحة الحجاج لدى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في أول سنة لحج يرعى تنظيمه عام 1343ه؛ هذه الوثيقة تاريخها الثاني عشر من ذي الحجة لعام 1343ه، وخاطب الملك المؤسس عبدالله بن محمد الفضل وعلي الناصر العماري، وهذا نص الوثيقة: «من عبدالعزيز العبدالرحمن الفيصل إلى الأخوان الكرام عبدالله المحمد الفضل وعلي الناصر العماري سلمهم الله آمين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى الدوام مع السؤال عن حالكم لا زلتم بخير بحال خير وسرور وأحوالنا من كرم الله جميلة، قد يسر الله تعالى وحجوا المسلمون حجاً هنيئاً حضره من أهل نجد زهاء مائة ألف، ولم يحدث بحمد الله ما يكدر الخاطر لا قليل ولا كثير وذلك من فضل الله وشأنه وتوفيقه، فالأمنية شاملة والصحة والطمأنينة حاصلة المقصود جميع الأحوال حسب ما تحبون الله تعالى المحمود ذلك ولأجل بشارتكم عجلنا لكم هذا من منى مع تلغراف بطيه تخلون من يترجمه بالإنجليزية وتبرقن به البحرين للقصيبي إن شاء الله، وتعجلونه أيضا بطيه زرف داخله صور تلغراف للخارج من الهنود ومن يوسف هم ان شاء الله تبرقون بها إلى جهاتها تدفعونها من عندكم وتقيد علينا وأرسلوا لنا رصيداتها حتى ندفعها لأهلها إن شاء الله بعد نزولها من منى يجيكم منا خطوط تعرفكم ما يلزم هذا ما لزم تعريفه ودمتم محروسين، التاريخ 12 ذي الحجة عام 1343 هجري». مفتش عام وهناك وثائق أخرى وجهت من الملك المؤسس إلى الشيخ علي العماري عن الحج وعن تكليفه بأن يكون مفتّشاً عاماً للجمرك الداخلي والخارجي وذلك بتاريخ 1345ه، والوثيقة كذلك من الملك المؤسس بصدور الأمر إلى العماري بالذهاب إلى رابغ لأجل تنظيم أمور الحجاج وذلك عام 1343ه في الرابع من ذي القعدة، والوثيقة الموجهة من عبدالله بن سليمان الحمدان التي يوجه فيها علي العماري بالحرص على راحة الحجاج وإعطاء كامل الحرية لهم، وهذا التوجيه من عبدالله السليمان الحمدان من توجيهات الملك المؤسس. ومن الوثائق التي نشرها الباحث عبدالله العماري في كتابه القيِّم الوثائقي هذه الوثيقة من الملك المؤسس إلى الشيخ علي العماري وذلك بتكليفه بتفتيش جميع دوائر رابغ حيث نص جلالته قائلاً: «وبعد عهدنا علي الناصر العماري لأجل تفتيش جميع دوائر طرفكم والكشف على حساباتها والاطلاع على أحوالكم وادارتكم» إلى ما في هذه الوثيقة وتاريخها 10 /11/ 1343ه. قدرة وكفاءة ويأتي مرة أخرى غاية حرص الملك المؤسس لأمر الحجاج في وثيقة إلى عبدالله الفضل وعلي الناصر العماري يخبرهما بنجاح حج عام 1343ه وجملة ليست قليلة من الوثائق وجهها الملك المؤسس إلى علي الناصر العماري تدل على ثقة الملك المؤسس به وأن القيادة العليا رأت فيه القدرة والكفاءة والقوة والحزم فيما كلف به، والشاهد على هذه الأمور التي هي صفات وُصِف بها علي العماري في خطاب وجهه الملك المؤسس إليه بشأن أعمال إدارية لكن الملك في ختام خطاب قال: «وبالله ثم بك كفاية». فهذا كلام الملك المؤسس في العماري بكفاءته في العمل الذي أُنيط به، ونرى ذلك أيضاً في وثيقة أخرى حينما أصبحت المدينةالمنورة تحت سيادة الملك المؤسس مع بقية أجزاء المملكة وذلك بتاريخ شعبان عام 1344ه، وهذا الخطاب مضمونه تكليف من الملك المؤسس إلى علي العماري بتسهيل درب المدينة، وقد وصل علي العماري إلى المدينة في 26 رمضان عام 1344ه بالسيارة حسب ما أمر به الملك المؤسس في خطاب آخر فيه تهنئة عبدالله السليمان إلى العماري بسلامة وصوله. وعلى تأكيد ثقة الملك المؤسس -رحمه الله- بعلي العماري يذكر الباحث عبدالله بن عبدالعزيز العماري عن جده قائلاً: «وبالتدرج في أخبار وعلاقة الملك عبدالعزيز بالعماري سنجد أن هذه العلاقة تزداد يوماً عن يوم ومع كل مهمة ينجزها بنجاح، كما نجد أن العماري يزداد قرباً من المؤسس، مع ذلك كله فلم تكن علاقة عمل فقط بل يمكن القول إنها علاقة شخصية كذلك، بحيث هناك مراسلات بينهما للسؤال عن الحال والأحوال والأهل دون دخول العمل فيها، وحتى الخطابات الخاصة بالمهام والتكليفات نجد بين ثناياها السؤال عن الحال». تجارة العماري وأتى علي العماري من عنيزة إلى الحجاز في عام 1320ه ومن ذلك التاريخ وهو فيها، حيث انتقل هو وأخوه صالح إلى جدة، وقد بدأ حياته بالتجارة حيث تعلّم من والده فن التعامل التجاري، وكانت جدة هي ميناء الحجاز الرئيسي، وكانت نشطة تجارياً، وقد كان يشتغل بالاستيراد عن طريق السفن، لذلك أسس مستودعاً ضخماً لتخزين البضائع في جدة -كما يذكر الباحث عبدالله العماري في كتابه عن جده- وبهذا نال شهرة عند رجال المال والأعمال في جدة وخارج جدة ووثقوا فيه، ومن أساسيات التاجر الناجح المميز الثقة والأمانة؛ وهي تعني الثقة في تعامله مع الناس ورجال المال، ونالها علي العماري، وبهذا أصبح من رجال المال والأعمال في جدة وعرفه الناس وتوسعت تجارته خارج جدة وشملت مكةوالمدينة وشمال الحجاز والليث بل تعدت إلى الهند والعراق ومصر والكويت والبحرين. صاحب مكارم وعلي العماري ليس تاجراً وحسب -وكما ذكرت كان إدارياً مالياً- كما بيّنت الوثائق التي ذكرتها، وأما الجانب الأخلاقي فهو صاحب مكارم؛ يروي المؤرخ الاجتماعي إبراهيم الحسون في مقاله بجريدة المدينة قصة بعنوان: «مواطن بطل حريق البنزين في جدة وحريق باخرة الحجاج اليمنيين -اسيا-»، والقصة هي احتراق الباخرة اسيا على بُعد عدة كيلومترات من جدة وذلك عام 1347ه شهر ذي الحجة؛ المهم شب حريق في الباخرة وكانت الباخرة تستعد للإبحار إلى عدن، وما أن علم نائب قائم مقام جدة بهذا الخبر المفزع حتى أمر على وجه السرعة بالزوارق واللنشات لإنقاذ من في السفينة من خطر الموت المحقق فنجى الكثير من الحجاج بحزم ونجدة علي العماري، كما أنه أمر بإحضار عشرين خياطاً لأجل إلباس هؤلاء الناجين من الغرق حيث كانوا عراة فتم ستر عوراتهم فكانت هذه النجدة مثار حديث الناس في جدة وهي من مكارم الشيخ علي العماري التي سطرها الحسون، ومن مآثره أيضاً حريق البنزين كما يذكر المؤرخ الحسون؛ فخلاصته أن الحكومة كانت تستورد البنزين عن طريق السفن وكان حفظ البنزين في صناديق من الخشب وكل صندوق فيه أربع صفائح من البنزين وكانت بجانب هذه الصناديق سكنى لبعض السكان من اليمنيين والأفارقة، وكانت مساكنهم عبارة عن مساكن من الأخشاب في غاية البساطة والفقر، فشب حريق في إحدى العشش وتسارع الحريق يلتهم هذه العشش، وكان الصيف حاراً وكانت الرياح مساعدة للحريق، فهي متجهة من الجنوب إلى الشمال ولما شاهد علي العماري الحريق وكان نائب قائم مقام جدة صرخ في الناس أن ينقلوا هذه الصناديق إلى مكان آمن وحدد لهم وهو الثكنة العسكرية «القشلة» والرياح كانت شديدة، مما ساعدت على انتشار النار في هذه المساكن الشعبية وفجأة تحولت الرياح من الشمال إلى الجنوب وقد قام هؤلاء الأبطال بنقل هذه الصناديق، ولولا عناية الله عز وجل ثم نجدة العماري وحث الناس على نقل الصناديق لأصبحت كارثة عظمى بهلاك مئات البشر؛ فهذا موقف عظيم من مواقف هذا الرجل الشهم أريحي الخلق، كانت مكارم الأخلاق تجري في عروقه، فكان يؤوي ويعين الحجاج الذين انقطعت بهم السبل ويوفر لهم الإمكانات لعودتهم إلى بلادهم لا يرجو بذلك إلاّ وجه الله تعالى. بناء مسلح وبنى علي العماري قصراً خارج سور جدة وهو أول بناء مسلح في ذاك الزمن أواسط الأربعينات الهجري، وسمي المكان فيما بعد بحي العمارية على اسم باني القصر العماري، وهذا القصر كان يسكن فيه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- عندما يصل إلى جدة كان بناءً شامخًا صامداً طوال عدة عقود، وبه كان يدير علي العماري أعماله التجارية ويستقبل ضيوفه من داخل المملكة وخارجها، فكانت هذه الدار دار ضيافة لمن زار صاحبها الكريم العماري، الجدير بالذكر أن القصر سكن فيه ملك الأفغان عندما زار المملكة، وسكنه النائب العام للملك الأمير فيصل -الملك فيما بعد- كما ذكر كل هذا الباحث عبدالله العماري في كتابه وقفة تأمل وذكر أيضاً أن الأمير فيصل نائب الحجاز كان ينزل فيه لمتابعة إدارة الدولة فهو لهذا كان قصراً له أهميته التاريخية في مدينة جدة الذي ينبغي أن تتولى وزارة الثقافة والآثار العناية به وترميمه. ختام المشوار وبتاريخ 22 / 9/ 1394ه في شهر رمضان في العشر الأواخر في ليلة مباركة وإحدى الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر فاضت روح علي الناصر العماري -رحمه الله- بعد أن بلغ أكثر من تسعين عاماً عاش معظمها في مدينة جدة، فقد كان ملء السمع والبصر طيلة حياته الحافلة بالأعمال المشرفة سواء مع الملك المؤسس وأبنائه الملوك أو مع جمهور الناس حتى لُقِّب بأبي المساكين، وهو لقب جليل القدر، ولم يكن يأتي من فراغ بل كان له واقعاً من جراء مكارم أخلاق وشيم راقية اتصف بها العماري والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. أشكر الباحث عبدالله بن عبدالعزيز العماري على تزويدي بكتابه المخطوط بعنوان: (وقفة تأمل في وثائق جلالة المؤسس الملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك والأمراء إلى الشيخ علي الناصر العماري) الذي كان تعامله راقياً معي في كل استفسار عن جدّه علي العماري. علي الناصر العماري بعد أن تقدم به العمر عبدالعزيز علي العماري علي العماري وبجواره ابنه عبدالعزيز وثيقة تهنئة من الملك المؤسس إلى الفضل والعماري بمناسبة نجاح حج 1343ه وثيقة من الملك عبدالعزيز إلى العماري لتنظيم مسألة الواردين من الحجاج