حسين الشيخ نائبا للرئيس الفلسطيني    قلصت الكويت وقت الإقامة والصلاة في المساجد ؟ توفيرا للكهرباء    أعربت عن تعازيها لإيران جراء انفجار الميناء.. السعودية ترحب بالإجراءات الإصلاحية الفلسطينية    رؤية السعودية 2030 في عامها التاسع.. إنجازات تفوق المستهدفات ومؤشرات توثق الريادة    أمير القصيم: خارطة طريق طموحة لرسم المستقبل    381 ألف وظيفة في قطاع التقنية.. 495 مليار دولار حجم الاقتصاد الرقمي السعودي    أمير جازان: آفاق واسعة من التقدم والازدهار    أمة من الروبوتات    الأردن.. مصير نواب "العمل الإسلامي" معلق بالقضاء بعد حظر الإخوان    تفاهمات أمريكية سورية ومساعٍ كردية لتعزيز الشراكة الوطنية    ينتظر الفائز من السد وكاواساكي.. النصر يقسو على يوكوهاما ويتأهل لنصف النهائي    القيادة تهنئ رئيسة تنزانيا بذكرى يوم الاتحاد    أمير الشرقية: إنجازات نوعية لمستقبل تنموي واعد    الآبار اليدوية القديمة في الحدود الشمالية.. شواهد على عبقرية الإنسان وصموده في مواجهة الطبيعة    ضبط أكثر من 19.3 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    "المنافذ الجمركية" تسجل 1314 حالة ضبط خلال أسبوع    المملكة تفتح أبواب جناحها في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025    برعاية سمو وزير الثقافة.. هيئة الموسيقى تنظم حفل روائع الأوركسترا السعودية في سيدني    خادم الحرمين: نعتز بما قدمه أبناء الوطن وما تحقق جعل المملكة نموذجاً عالمياً    خطى ثابتة نحو مستقبل مُشرق    برشلونة يكسب "كلاسيكو الأرض" ويتوج بكأس ملك إسبانيا    مدرب كاواساكي: قادرون على التأهل    قدامى الشباب ينتقدون نتائج توثيق البطولات    تقرير يُبرهن على عمق التحوّل    المملكة تقفز عالمياً من المرتبة 41 إلى 16 في المسؤولية الاجتماعية    الجبير يترأس وفد المملكة في مراسم تشييع بابا الفاتيكان    إطلاق مبادرة "حماية ومعالجة الشواطئ" في جدة    ترامب يحض على عبور "مجاني" للسفن الأميركية في قناتي باناما والسويس    دفع عجلة الإنجاز وتوسيع الجهود التحولية    اللواء عطية: المواطنة الواعية ركيزة الأمن الوطني    1500 متخصص من 30 دولة يبحثون تطورات طب طوارئ الأطفال    الأميرة عادلة بنت عبدالله: جائزة الشيخ محمد بن صالح بن سلطان عززت المنافسة بين المعاهد والبرامج    فخر واعتزاز بالوطن والقيادة    تدشين الحملة الوطنيه للمشي في محافظة محايل والمراكز التابعه    رئيس مركز الغايل المكلف يدشن "امش30"    الحكومة اليمنية تحذر موظفي ميناء رأس عيسى من الانخراط في عمليات تفريغ وقود غير قانونية بضغط من الحوثيين    اكتشاف لأقدم نملة في التاريخ    قدراتنا البشرية في رؤية 2030    الذهب ينخفض 2 % مع انحسار التوترات التجارية.. والأسهم تنتعش    101.5 مليار ريال حجم سوق التقنية    تصاعد التوترات التجارية يهدد النمو والاستقرار المالي    800 إصابة بالحصبة بأمريكا    فواتير الدفع مضرة صحيا    الذكور الأكثر إقبالا على بالونة المعدة    الأهلي يكسب بوريرام بثلاثية ويواجه الهلال في نصف نهائي النخبة الآسيوية    السعودية تعزي إيران في ضحايا انفجار ميناء بمدينة بندر عباس    القيادة تهنئ تنزانيا بذكرى يوم الاتحاد    حين يعجز البصر ولا تعجز البصيرة!    32 مليون مكالمة ل 911    مكافحة المخدرات معركة وطنية شاملة    التحول الرقمي في القضاء السعودي عدالة تواكب المستقبل    قوانين الفيزياء حين تنطق بالحكمة    أمطار رعدية ورياح نشطة على عدة مناطق في المملكة    وزارة التعليم تستعرض منصاتها في معرض تونس الدولي للكتاب 2025    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف يلتقي مديري عموم الفروع    إمام الحرم النبوي: حفظ الحقوق واجب شرعي والإفلاس الحقيقي هو التعدي على الخلق وظلمهم    إمام المسجد الحرام: الإيمان والعبادة أساسا عمارة الأرض والتقدم الحقيقي للأمم    الشيخ صلاح البدير يؤم المصلين في جامع السلطان محمد تكروفان الأعظم بالمالديف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي

أوضح فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي أن الناظر إلى حال الدنيا وما يعتريها يجدها تتقلب بأهلها ومن فيها، ما بين عز وذل وسرور وحزن وراحة وتعب وغنى وفقر وصحة ومرض ومسرات وأحزان، وهذه الأحوال المتفاوتة إنما تكون فتنةً للعبد وتمحيصًا له؛ قال تعالى: ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) وقال سبحانه: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، والحسنات هنا هي النعم من الخِصْب والرخاء والصحة والعزة، والنصرِ على الأعداء ونحو ذلك، والسيئات هنا هي المصائب، كالأمراض وتسليط الأعداء والزلازل والرياح والعواصف والسيول الجارفة المدمرة ونحو ذلك، وقال عز وجل:(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، والمغزى المراد من هذه الآيات: أنه سبحانه قدَّر ما قدَّر من النعم والمصائب وما ظهر من البلايا والنكبات كالجدب والقحط ومحق البركات وقلة الخيرات، ليرجع الناس إلى الحق ويبادروا بالتوبة مما حرم الله عليهم، ويسارعوا إلى طاعته وامتثال ما أوجب عليهم.
وبين في خطبة الجمعة التي ألقاها في المسجد الحرام اليوم أن حكمة الله تعالى اقتضت أن دوام الحال من المحال، قال تعالى: (يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) أي يسأله من في السموات والأرض، سؤالَ المحتاج إلى رزقه وفضله وسِتره وعافيته، وهو عز وجل في كل وقت من الأوقات في شأن عظيم وأمر جليل، حيث يُحدِث ما يحدث من أحوال في هذا الكون دون أن يَشْغَله شأن عن شأن، ويبين لنا المعنى ما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: (مِن شأنه: أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما ويخفض آخرين) فهو سبحانه في كل يوم من أيام الدنيا في شأن من شؤون عباده: يغفر ذنباً، ويُفرِج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويُغني فقيراً، ويُعلِّم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويُرشِد حيران، ويغيث لهفان، ويفك عانياً، ويُشبِع جائعاً، ويكسو عارياً، ويشفي مريضاً، ويعافي مبتلى، ويقبل تائباً، ويجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويُقيل عثرة، ويستر عورة، ويُؤمِّن روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين.
وشدد الشيخ فيصل بن جميل غزاوي على أن أمر المؤمن كلَّه خير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم، فنفس المؤمن تَشكر في السراء، ولا يستخفها حال الرخاء فتتراخى وتنحل، وهي تصبر في الضراء وتتجلد وتتماسك وقت الشدة واللأواء فلا تَضْجَرُ ولا تتبرم، وفي كلا الحالين تتجه إلى الله الذي فطرها، وتوقن أن ما أصابها من مقادير الخير والشر فبإذن الله الذي قدرها.
وقال : انظروا كيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف تعامل مع ما نزل به من أقدار مختلفة وما مر به من أحوال متنوعة؛ فمن تلك الأحداث التي وقعت له والمواقف التي تعرض لها في حال السعة والسراء ووقتَ الرخاء أن آواه الله، وكفَّله جدَّه عبدَ المطلب، ثم لما مات جده كفَّله عمَّه أبا طالب الذي حن عليه ورعاه وعاش في كنفه وحِماه وواسته خديجة رضي الله عنها بنفسها ومالها، و أيده الله بنصره وبالمؤمنين الذين قدَّموا محبته على محبة الآباء والأبناء والأزواج وقيض له رجالا ونساء من المهاجرين والأنصار، عزروه وناصروه وآزروه وضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء.
وبين أنه صلى الله عليه وسلم عاش حياة طيبة، قلبه معلق بالله، ذائقٌ طعمَ الإيمان وحلاوة العبودية واجدٌ لذة المناجاة، وكان أطيبَ الناس عيشا وأشرحَهم صدرا وأقواهم قلبا وأَسَرَّهم نفسا تلوح نضرةُ النعيم على وجهه، ولا يفتر لسانه عن ذكر مولاه ، وهَمُّه أن ينال محبة الله ورضاه، وكان يتغنى بالقرآن وجُعلت قرةُ عينه في الصلاة وحبب إليه من الدنيا الطيب والنساء، وكان له سُكةُ يَتطيبُ منها، ولَبِسَ الجديد من الموجود ، وكان يتجمل للوفود، وكان له حُلَّة خاصة يلبَسُها للعيدين والجمعة، وكان يحب الحَلواء والعسل، ولا يُحَرِّم الطيبات ولا يَمتنع عما ربُّه أحل، فكان يأكل ما جرت عادةُ أهل بلده بأكله، من اللحم والفاكهة والخبز والتمر وغيره، وكان يُطْلَبُ له الماءُ العذبُ ويؤتى له به، وكان يَقْبَل الهدايا ويثيب عليها، ويدخل السرور على نفوس الناس ويسليها، وكان عادته أن يضحك تبسما، ويمازح أهله إيناسا لهم وتعطفا، ويلاعب الأطفال حبا لهم وتلطفا، ويداعب أصحابه ولا يقول إلا حقا، وكان يستجم بأن يخرج إلى البادية ترويحا للقلب واستئناسا فيشاهدَ مسيل الماء من أعلى الوادي، وكان إذا بشر بخبر سر، واستنار وجهه كأنه قطعة قمر، وإذا جاءه الأمر يسره خر لله ساجدا، وعند حصول نعمة أو اندفاع نقمة يسجد لله شاكرا، وخصه الله بمعجزات باهرات وأجرى على يديه كراماتٍ مؤيِّدات وكانت له في المعارك انتصارات، وفي السرايا غلبات، وفي الفتوحات بشائرُ ومسرات، وكان له أسرى من العدو في الغزوات، يمنّ على من شاء منهم فيُطلقه، ويفدي من شاء منهم فيُغرمه، وما يجتمع عنده من الزكاة والغنيمة والفيء يَقْسِمُه، هذا، وفي مقابل كل ذلك جرت عليه أحوال من الشدة والبأساء والضيق والضراء، ومع أنه أشرف الأمة، وأكمل الأمة، وأعظمهم منزلة عند الله إلا أنه مرت به أحداث عصيبة جسام ومواقف شديدة عظام، فقد ابتلي باليتم في صباه، وفقَدَ بعض أقاربه وأصفياه، وعاداه أقرب الناس إليه وجفاه، وحاربه قومه وصدوا عنه صدودا كبيرا، واضطهدوه وأصحابَه اضطهادا شديدا، وألجأوهم إلى هجر بلادهم وترك أموالهم ولقي منهم صنوفا من الأذى؛ فقد شتموه وسخروا منه وقذفوه في عرضه واتهموه بالجنون وبالسحر وبالكهانة وبالكذب وتآمروا على قتله وشج في رأسه وألقي عليه سلا الجزور ورمي بالحجارة ودَمِيَت أصبعه وكسرت رباعيته ونام على الحصير وحوصر في الشعب ومنع من دخول مكة وعاش على شظف من العيش فشعر بالجوع ورَبط الحجر على بطنه وكان يبيت جائعا وأهله لا يجدون عشاءً، وتَمُرُّ الأشهر ولا يوقد في بيته نار وليس له طعام إلا التمر.
وأردف قائلا : ويظل اليوم يلتوي من الجوع ما يجد من الدَّقَل وهو التمر الرديء ما يملأ به بطنه, وكان يؤتى بالتمر فيه دود فيفتشه يخرج السوس منه، وكان يستقرض لحاجة، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي، وكان يمرض بل ويشتد به وجعه، ويوعك وعكا شديدا، وعانى من سكرات الموت، وانقطع الوحي عنه مرتين ، حتى شق ذلك عليه ، فأحزنه وآلمه وألمت به بعض المشكلات في بيته مع أهله، وهو في كل تلك الأحوال السالفة صابر محتسب لا يتضعضع ولا يضعف ولا ينتقم لنفسه ولكن يعفو ويصفح، ويعطف على الناس ويرحمهم، وكان يطلب لقومه الهداية والمغفرة، على الرُّغم من إمعانهم في إيذائه والكفر به فيقول: (اللهمَّ اهْدِ قومي؛ فإنهم لا يعلمون) وكان دائم الصلة بربه وفي أحلك الظروف وأصعب المواقف لا يقنط من رحمة الله ولا ييأس من روح الله، ويقابل ما يختبره به ربه من المحن والمصائب بالصبر والاسترجاع واحتساب ذلك عند الله لا يسخط ولا يجزع بل كان متفائلا في كل أحواله وأموره، وكان مبشرا وميسرا، ومع هذا لا ينفك عن مناشدة ربه ومناصرته ومناجاته في الملمات والاستعانة به في الكربات والالتِجاء إليه وقْتَ الشدائد والأزمات ، مفوضا أمره إليه ومتوكلا عليه موقنا بأن ما عند الله خير له فتنساب من فمه الشريف كلماتٌ صافيةٌ كالزلال، تعبر عن معاني الرضا عن ربه المتعال ورغبتِه فيما لديه وتوجهِه إليه وثقتِه فيما عنده واعتمادِه عليه فتراه يقول "عسى أن يكون في الأمر خير" ويقول "إنه ربي ولن يضيعني" ويقول: "اللهم إن العيش عيش الآخرة" ويقول إذا رأى ما يحب: "الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات" ويقول إذا رأى ما يكره: "الحمد لله على كل حال" ويقول: "إن المؤمن بكل خير على كل حال " ويقول عند لقاء العدو: " اللهم أنت عضدي وأنت نصيري، بك أحولُ وبك أصولُ وبك أقاتل" وكان ينسب الفضل والنعمة لله مبديها ومسديها ويشكرها ولا يكفرها فيقول "الحمد لِلَّهِ غيرَ مودَّعٍ وَلا مُكَافأ ولا مَكْفُورٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عنه ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَ مِنَ الطَّعَامِ ، وَسَقَى مِنَ الشَّرَابِ، وَكَسَا مِنَ الْعُرْيِ، وَهَدَى مِنَ الضَّلَالَةِ، وَبَصَّرَ مِنَ الْعَمَى ، وَفَضَّلَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ تَفْضِيلًا " مستشعرا على الدوام قولَ الملك العلام ( وما بكم من نعمة فمن الله ) لذا تجد لسانه لهِجا بذلك يقول في دبر كل صلاة حين يسلم كما جاء في صحيح مسلم: ( لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن).
وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أنه بعد أن كشف الله الغمة عن رسوله وعن المسلمين، وجعل لهم الغلبة بعد أن وعدهم بالنصر والتمكين، دخلوا بيت الله الحرام في فتح مكة آمنين مخبتين، وذقن النبي صلى الله عليه وسلم يكاد يَمَسُّ ظهر راحلته من الذِّلة لله رب العالمين والشكر له على فضله المبين لم يدخل متكبرا ولا بطرا ولا شامتا، ولم تُنسه نشوةُ النصرِ واجبَه نحو ربه المنان، ولم يتنكر لعطاء مولاه ذي الطَّول والإنعام، وما فتئ يذكر إحسانَه التامَّ في نصره ونصر أصحابه بعد الذلة، وتكثيرِهم بعد القلة، وإغنائهم بعد العَيلة امتثالا لقوله جل ثناؤه ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) وهذا بخلاف حال المشركين الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاندوه ولم يعتبروا بالآيات كما قال سبحانه : (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون) أي لو رفعنا عنهم ما أصابهم من سوء حال بسبب ما نزل بهم من قحط وجدب وفقر وكشفنا عنهم البلاء لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والأعمال السيئة لأنها صارت سجيةً لهم ولتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحد يترددون ويتخبطون حيارى، وهكذا هو ديدنهم كما بين الله حال الكافر المصر على جحوده بقوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ) هذه هي حقيقته يستغيث بربه الذي خلقه، ويرغب إليه وقت الشدة، ثم إذا كشف عنه ضرّه، وأبدله بالسقم صحة، وبالشدة رخاءً، نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، و نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره, وقد صُور هذا الحال في مواضع أخرى من كتاب الله كقوله تعالى ( وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فلما فرّج الله عنه الجَهد الذي أصابه استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي فرّج عنه ما كان فيه من الشدة حين استعاذ به.
وأبان أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بالجملة هذه الحياة بخيرها وشرها بحلوها ومرها بسعتها وضيقها بسرائها وضرائها بمسراتها وأحزانها بأفراحها وأتراحها بأمنها وخوفها، وكان في جميع الأحوال مثلاً بليغًا وقدوة حميدة في الرضا بقضاء الله، والشكر على نَعمائه، والصبر على بلائه، والاتعاظ والادكار بآياته، والتسبيح بحمده والإخلاص في دعائه، والصدق في العبودية له، والحياء من جلاله وأنه من هنا يجب أن نعلم حاجتنا الماسة إلى معرفة نبينا صلى الله عليه وسلم لتقوى محبتنا له، فإذا ما أحببناه اقتدينا بهديه وتأدبنا بآدابه وتعاليمه، فبمتابعته والسير على نهجه يتميز أهل الهدى والرشاد من أهل الضلال وألغي.
ولفت الشيخ فيصل غزاوي الانتباه إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا وبشرنا ببشارة جاءت في آخر وصيته لابن عباس الشهيرة وهي قوله : (وأعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً) فقوله "واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تَكرَهُ خيرًا كثيرًا" أي: أنَّ الصَّبرَ على الشَّدائدِ التي يَكرَهُها الإنسانُ فيه خيرٌ كثيرٌ للعبْدِ، وهو أفضَلُ له مِن الجزَعِ "، فيصبر لحكم الله الذي لا يجد معوَّلاً إلا عليه ولا مفزعاً إلا إليه, وقوله صلى الله عليه وسلم "وأنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ"؛ فالصَّبرُ مِفتاحُ كلِّ خيرٍ مع إخلاصِ النِّيَّةِ للهِ, وقوله صلى الله عليه وسلم "وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسْرًا"، أي: أنَّ رَحمةَ اللهِ بعِبادِه قريبةٌ، فيَجعَلُ مع الضِّيقِ والشِّدَّةِ تَفريجًا، فلا يَيأَسِ العبْدُ مهما أصابَه ذلك أن كل يُسر بعد عُسر بل إن العُسر محفوف بيُسرين، يُسر سابق ويُسر لاحق قال الله تعالى: ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وكان فيما كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي عبيدة رضي الله عنه أن قال: " فإنه ما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة إلا يجعل الله له بعدها فرجا ، ولن يغلب عسر يسرين، قال ابن رجب رحمه الله" :ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب ، واليسر بالعسر : أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى حصل للعبد اليأس من كشفه من جهة المخلوقين ، وتعلق قلبه بالله وحده ، وهذا هو حقيقة التوكل على الله ، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلب بها الحوائج فإن الله يكفي مَن توكل عليه ،كما قال تعالى: ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
وأوضح فضيلته أنه في الأزمات ووقت الشدائد يتطلب من المرء اللجوء إلى الله تعالى ففي الضيق تتبدى السّعة، وفي الألم يتجلى الأمل ، وفي الكرب يجد المرء مخرجاً، ولو خلق الله الضيق دون سعة والألم دون أمل والكرب دون فرج و الحزن دون سرور لضاقت الدنيا بمن عليها وما طاب العيش لمخلوق ورأى أن مما يسلي المرء ويعزيه أن ما يعيشه من السعة والتفريج في الحياة أضعاف أضعاف ما ينتابه أحيانا من ضيق وكرب في حياته.
دخل عبد الوارث بن سعيد على رجل يعوده فقال له: كيف أنت؟ قال: ما نمت منذ أربعين ليلة، فقال: يا هذا أحصيت أيام البلاء فهل أحصيت أيام الرخاء؟!.
وشدد على أن ماجاءت به الأخبار وشاهدنا من الأحداث يؤكد لنا عجيب صنع الله بعباده المؤمنين وإحسانه إليهم ولطفه ورحمته بهم وإفضاله عليهم فما كان جل وعز ليترك أولياءه ولا يكلَهم إلى ضيعة ولا يتخلى عنهم وهم يلجأون إليه ويستغيثون به ويستنصرونه وقت الشدائد والمحن ومن أوضح الأمثلة في ذلك وأشهرها ما ذكره الله تعالى عن يونس عليه السلام لما ابتلي بالتقام الحوت له ووقع في الشدة والضيق، بل في غم شديد ( فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) والمقصود بتسبيحه هو قوله: (فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ) ومن كان مع الله في السرَّاء والضرَّاء، والشدَّة والرخاء، والعلانية والخفاء، كان مُؤيَّدًا منصورًا، وعاد بالظفر مسرورا.
وقال : ولكم أن تقارنوا بين حال يونس عليه السلام عند مناشدته ربَّه وقت شدته وبين فرعون عليه لعائن الله وهو يعاين الموت، وقد يئس من النجاة وأيقن بالهلكة (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) إنّ الفرق واضح، والبونَ شاسع، لمّا كان ليونس أعمال صالحة متقدمة، دعا الله فنجاه وأجاب دعاءه، ولما لم يكن لفرعون عملُ خير لم يجد متعلَّقا وقت الشدة، فأُنكر عليه وزُجر وقيل له مدحورا مذموما: آلآن. فرقٌ بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيّعه؛ فيونس رخاؤه دعاءٌ ودعوة؛ وفرعونُ رخاؤه ظلمٌ وكفرٌ وجحودٌ.
وأضاف : لا يزال لطيفُ صنعِ الله عز وجل بأوليائه وعباده الصالحين يتوالى عليهم في حال الشدائد والكُرَب، فيفرّج كربهم، وينفّس عنهم حيث كان لهم مع الله معاملةٌ في الرخاء، وإنه مهما يبتلى به العبد من مصيبات الدنيا ويعافى بعدها، أو يبقى على حاله صابرا محتسبا حتى الممات فإن ذلك الابتلاء يعد هينا يسيرا لكن من أصيب في دينه فهو البلاء حقيقة والمصاب بذلك هو المصاب ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (ولاتجعل مصيبتنا في ديننا) وأن من اعترف بالفَضلِ لله وشَكَره بلسانِه وجوارحِه بالأعمالِ الصَّالحةِ؛ فإنَّ نِعمةَ الله عليه بالتوفيقِ للشُّكرِ أعظَمُ من نعمة سلامتِه وعافيته من الوباء، ومَن نَسَب الفَضلَ لنَفسِه وجُهدِه وارتكَسَ في الذُّنوبِ والمعاصي، فمصيبتُه أعظَمُ من مصيبة الوباء وسائر الأدواء.
// يتبع //
14:50ت م
0059
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

عام / خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي/ إضافة أولى واخيرة
وفي المدينة المنورة ذكر فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالمحسن بن محمد القاسم، أن الله حكيم يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، له كامل الحكمة المقترنة بالعزة والعلم والخبرة والسعة والتوب والحمد حكمته بالغة تعجز العقول عن الإحاطة بكنهها وتكل الألسن عن التعبير عنها وبحكمته قال تعالى (سبح لله ما في السموات والأرض).
وأوضح فضيلته أنه بحكمة المولى سبحانه خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام ورتبها أكمل ترتيب، أتقن التدبير وأحسن التقدير وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به قال تعالى (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، وتحدى الله الخلق أن يجدوا في خلقه خللًا قال تعالى : (فأرجع البصر هل ترى من فطور) ولو اجتمعت عقول الخلق ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن والانتظام والاتقان لم يقدروا لذا أمر الله الخلق بالاكتفاء بالتأمل فيما خلق من الحكم في مخلوقاته والاطلاع على بعض ما فيها من الحسن والاتقان قال تعالى (قل انظروا ماذا في السموات والأرض).
واختتم إمام وخطيب المسجد النبوي الخطبة بالإشارة إلى أن الله سبحانه بنى أمور عباده أن عرفهم معاني دلائل خلقه وأمره دون دقائقها وتفاصيلها وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها وما يخفى على العباد معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه وكونه القدري يكفيهم فيه معرفته بالوجه العام أن تضمنته حكمة بالغة وإن لم يعرفوا تفاصيلها وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.