اعتمد معجب الزهراني في روايته الموسومة ب(رقص) والصادرة عن (طوى 2010م) الحوار بوصفه حجر الأساس الذي ارتكز عليه ليقدم رؤيته الخاصة لعدة قضايا؛ سياسية ومجتمعية ودينية. ولم يكن حواره الذي غطى صفحات الرواية ال(286) اعتياديا بل كان العتبة التي خطا عليها طرفاه (سعيد وسعيد) خطوتهما الأولى ليعبرا من خلالها نحو فضاء التداعي اللغوي الحر دونما أي وازع فني، ما حوله من مجرد عنصر رديف إلى عنصر دلالي محوري في عملية تشكيل خطاب سردي قلق ومتوتر. وهو الخطاب الذي بانت ملامحه بزحزحة فعل الرقص عن دلالته العامة بوصفه ممارسة حركية مجردة إلى استحضاره باعتباره حالة إنسانية منشودة لها علاقة بالخلاص والانعتاق والتحر. ابتداء، يتم التأكيد على حضور الرقص بدلالته المتجاوزة للفعل الآلي المجرد عبر خطوتين أساسيتين ومتلازمتين؛ الأولى حينما يحضر بوصفه عنوانا للرواية، فيرقص العنوان (رقص) متحررا من قيود الزمن ومكتفيا بالدلالة على الحدث العام. ثم تستكمل الخطوة بأختها حينما يقول سعيد/البطل، وهو الشاب الذي يعود مدعوا إلى بلدة رويان الفرنسية: «سأكتب عن رقص البشر على الأرض. عن رقصة فتنتني منذ أن سمعتها خبرا عابرا في حكاية قديمة بدت لي هي المهمة حينها. بعد فترة أدركت أن تلك الرقصة هي قلب الحكاية الذي يولد النبض في العروق وينظم الإيقاع في الجسد». هنا تقيد عمومية الرقص من خلال استدعائه بمعنى خاص ومتجاوز بدال إشارة سعيد إلى أنه سيكتب عن الرقص، وكتابة حكاية عن ممارسة حركية مجردة احتمال غير واقعي. ثم إن البطل ينص على أن الرقصة هي قلب الحكاية، وبما أننا بصدد مقاربة نص روائي فإن ذلك يعني أن الرقصة هي قلب الرواية، ما يؤكد حقيقة أن الرقص المتجاوز الذي يعني حالة الخلاص والانعتاق والتحرر هو للرواية بمثابة القلب للجسد، أي أنه ليس حدثا روائيا عارضا بل ثيمة نصية أساسية. ولأن استحضار الخلاص يستلزم أولا خلق ملابسات سردية تستدعي البحث عنه فإن طرف الحوار الأول البطل/سعيد يعبر عن تعبه وعدم قدرته على الاحتمال في سياق تبريره لرغبته الجارفة بالسفر في صفحة الرواية الأولى حينما يقول: «تعبت. لم أعد أحتمل». ثم يوجه حديثه إلى صديقه الطبيب النفسي قبيل سفره قائلا: «الحياة هنا لم تعد تطاق». ويقرر وهو في طريقه إلى مطار الرياض متجها إلى فرنسا بأنه لا يسافر سفرا عاديا وإنما يمارس الهروب: «كلنا يريد الهروب وقد قرب الفرج»، ولذلك فإنه يبدو حاسما بقوله: «سأرحل دونما تردد أو ندم». أما وقتما تجاوز نقطة التفتيش الثالثة وأصبح على مشارف المطار فإنه يشعر باقتراب الخلاص ودنو وقت الفرح: «شعرت بقرب الخلاص واستضفت مزيدا من الفرح». وهو الخلاص الذي يعود فيما بعد ليضع النقاط على حروفه عندما يخاطب طرف الحوار الثاني سعيد/الضيف، السعودي المقيم في باريس، قائلا: «الحال من بعضه. كلنا في ورطة، والمحظوظ من يبحث عن خلاصه في رقصة». هنا، من الجلي حضور الرقص بوصفه فعلا متجاوزا له علاقة مباشرة ووشيجة بقيم إنسانية تعني الخلاص والانعتاق والتحرر من أوضاع قائمة غير ملائمة دفعت سعيد/البطل دفعا إلى التعبير عن التعب وعدم القدرة على الاحتمال بسبب حياة يرى أنها لا تطاق، الأمر الذي أدى به إلى اتخاذ قرار الهروب والابتعاد والرحيل دون أي شعور بالتردد أو الندم. عطفا على ذلك ولتأكيد دلالة الرقص المفارقة فإن الكاتب ينجح في توظيف المسافة الفاصلة بين محل إقامته والمطار توظيفا دالا؛ فكلما يقترب البطل من منفذ الهروب/المطار يشعر بالفرح واقتراب الخلاص، الخلاص الذي يكون كما يشير لاحقا في رقصة. بعد هاتين الخطوتين اللتين تم عن طريقهما التخلص من أي شكوك قرائية حول ماهية رقص (رقص)، تستكمل الموضوعة السردية (الرقص للخلاص، رقص الخلاص) تشكلها حين يتم استدعاء الرقص مقترنا بالحلم، ثم بالحرية، وبعد ذلك بالحياة بشكل عام، وفي اقترانه بهذه المعاني الإيجابية تبئير حاد لرؤية ترى في وجود الإنسان قلق وتوتر وعدم تصالح، لذلك نجده وبسبب سمات الوجود هذه يتخذ من الرقص بوابة للحلم عبر شخصية المرأة الراقصة يوم زواج سعيد/البطل الذي يقول عنها: «ترقص لتكتب قصيدة وتعزف موسيقى وترسم لوحة وتنحت هوى وتزرع أراض شاسعة بأحلام لا تشيخ ولا تذبل أبدا»، و«تراقص أحلاما تعيشها كل لحظة». أما رقص التحرر والانعتاق فإنه يكون مع سعيد/الضيف البطل حينما يقوم باسترجاع لحظات (تحرره) من السجن وسردها على مسامع سعيد/البطل، إذ يبدو جليا عندما يصف رقصه في احتفال أهله بخروجه أنه لم يكن يتحدث عن رقص اعتيادي يصف به حركات جسده بل كان يسترجع فعل تحرر محض، يقول: «رقصت كما يلعب الطفل ويحلق الطير وتنتشي النحلة فوق زهرة تشبهها والفراشة حول ضوء يرقص لها». ثم تظهر علاقة الرقص بالتحرر أو بالرغبة به حينما يأتي فعل الرقص تاليا مباشرة لحالة السجن؛ وكأن المعادلة السردية تقول إن السجن يعني انعدام الحرية/غياب الرقص، أما الخروج من السجن فإنه يعني الحرية/حضور الرقص. ثم تظهر كذلك وقتما زاوج سعيد/الضيف البطل بين الرقص والتحرر بوصف الأول سببا للثاني: «رقصت القرية. رقصت المزارع. رقصت الوديان والجبال. رقصت معنا، رقصت بنا، رقصت لنا. ولقد رقصت هكذا ليتحرر الإنسان في داخل كل منا فلا يخاف من خصم أبدا». ويضع سعيد/الضيف البطل حدا فارقا بين رقص الآخرين ورقصه: «لم أكن أرقص كالآخرين. كنت أختبر حريتي بيدي وقدمي فإذا هي تعلن حضورها في الجسد كله»؛ هو يرقص ليحول الحرية من مفهوم نظري إلى ممارسة تطبيقية قد لا تفيده كثيرا إلا أنها تظهر مدى احتياجه وتطلعه للحياة بحرية. أما الحياة فهي تحضر مقترنة بالرقص (أو الرقص مقترنا بها) كتتويج دلالي للعنصرين الأولين؛ الحلم والحرية؛ فإن كان الرقص للحلم، ثم للتحرر، فإن الرقص يكون كذلك تعبيرا عن الرغبة في الحياة، فسعيد/البطل يقول عن رقص المرأة يوم زفافه: «نعم، لا ترقص المرأة حيت ترقص عبثا. إنها تكشف السر الخفي الذي يسري فينا ويحثنا على محبة الحياة من جديد». و المرأة كذلك إنما «ترقص لحياة لم تعشها بعد». ثم الرقص تعبير عن الحياة بشكل مباشر كما يقول البطل: «أنا أرقص إذن أنا حي». وإن كان اقتران الرقص بمعان إيجابية كالحلم والرغبة بالتحرر أو الرغبة بالتعبير عن التحرر والحياة قد يوهم بما لم تقله الرواية ولن تقوله القراءة، فإن الرفض والقلق والتوتر يتجلى في حقيقة أن حضور هذه المعاني كان حضورا هشا غباريا لا حضورا صلبا حقيقيا، حضور افتقار واحتياج لا حضور استغناء واكتفاء؛ فالرقص مع الأحلام غير كاف لتحويلها إلى حقائق، أما الرقص حرية فيمكن تأويله بناء على افتراضين؛ أن يكون رغبة بالتحرر وذلك يعني واقعا غير حر، أو أن يعني التعبير عن التحرر ولا أشد بؤسا من حرية نافذتها الوحيدة الرقص، إذا ما حاولنا فهم الرقص وفق آراء البطلين الكاشفة لملامح حياتهما، أي وفق سياقات السرد العامة. أما الرقص للتعبير عن محبة الحياة فإن حالة الافتقار فيه جلية خاصة حين يقول سعيد/البطل عن المرأة التي ترقص ليلة زفافه إنها ترقص لحياة لم تعشها بعد! كذلك حين يقول إنها ترقص لتكشف السر الخفي الذي يحثنا على محبة الحياة من جديد، ولا يمكن حثنا على محبة شيء إلا إن كنا لا نحبه أصلا. لقد قدم الزهراني رؤية رافضة لوجود متوتر وقلق في صنعة سردية متقنة، تجلت في رحيل البطلين وهجرتهما إلى فرنسا ثم التقائهما هناك! وقد كان الرقص بوابة فهم تلك الرؤية حينما حضر حتى إن اقترن بالحلم والحرية والحياة معبرا عن حالة الافتقار الإنساني الدائم إلى قيم الخلاص والتحرر والانعتاق والحياة بطريقة ملائمة. ولكي تكشف هذه الرؤية السردية الرافضة عن مشهدها المتمم والنهائي فإن شخصيتي الرواية أو بطليها سواء سعيد الذي هرب رحيلا إلى فرنسا أو سعيد (أبوسامي) الضيف الذي يزوره ليسرد حكايته تمهيدا لكتابتها لا يتجليان سرديا بعلامات فارقة قاطعة يستطيع القارئ تمييز أحدهما عن الآخر إلا بعد جهد، ويبدو أن تلك التعمية مقصودة بغرض تعميم حالة القلق والتوتر والرغبة في الخلاص والتأكيد على أنها حالة عامة حقيقية وليست مقصورة على شخصية محددة. يظهر ذلك التعميم عبر مفارقات عدة؛ فالبطلان اسمهما سعيد، وهما من نفس المنطقة، ودرسا في ذات البلدة (رويان-فرنسا). ثم إن الحوار المطول والمتداخل الذي كان بمثابة الشكل الأساس للرواية يشير إلى عدم أهمية الشخصيات بقدر أهمية الأفكار والرؤى التي تقدمها هذه الشخصيات، وهي متشابهة ومتداخلة إلى حد بعيد وتحتاج إلى مزيد من التركيز لفرزها ونسبة كل منها إلى صاحبه. أما إقحام مشهد خروج سعيد/الضيف من السجن بشكل مبكر وقبل أن يظهر أصلا في المشهد الروائي فهو إن استبعدنا كونه زلة فنية عطفا على تمكن الكاتب من أدواته فإنه يومئ إلى أن ما يقوله سعيد/البطل يمكن أن يقوله سعيد/الضيف والعكس صحيح، ومن ثم إذا ما واصلت عجلة القراءة جريانها فإن ما يقوله البطلان (سعيد وسعيد) يمكن أن يقوله غيرهما، وفي هذا تعميم جلي. اما التداخل الذي لا يمكن بعده التردد بحضور قصدية التعميم فهو ما قاله كل بطل لصاحبه بطريقة متبادلة، وهو قول متعالق ووثيق الصلة بمضمون الحكاية ولبها (القلق والتوتر والرغبة الملحة بالخلاص) وليس بشكلها (الاسم، القرية، الدراسة...الخ)؛ فسعيد/البطل يقول لضيفه في رويان متحدثا عن حكايته: «لقد أصبحت قصتي أنا أيضا». بينما يقول سعيد/الضيف لمضيفه: «تسألني عن حكايتي وكأنها حكايتك». ختاما يمكن القول إن الكاتب وفق كثيرا في تقديم إضافة روائية محلية بسمات فنية عالية، من خلالها وبمهنية العارف استطاع التحليق بسرده بجناح فني وحيد هو الحوار الذي لم يكن حوارا بالشكل المعتاد بل حوارا مطولا ومعمقا ومتداخلا. أما من حيث المضمون فقد وظف الرقص وتجاوز به على المستوى الدلالي من كونه حركات ميكانيكة متزامنة إلى حالة إنسانية لها علاقة بقيم رفيعة كاشفا بهذا التجاوز الحاجة الماسة من قبل البطلين، والجميع بفعل عملية التعميم الممنهجة، إلى الحياة بشكل أفضل. ويمكن الإشارة هنا إلى أن الاستطراد السردي من قبل سعيد/البطل حينما تحدث في صفحات الرواية الأخيرة عن أحداث الحرم التي وقعت في بداية القرن الرابع عشر الهجري لم يكن له أي مبرر فني أو على مستوى المضمون، ومن ثم فقد بدا الأمر وكأن الكاتب نسي إيجاد مساحة متسقة ومسار الرواية لهذه القضية فضمنها آخرها لاويا عنق السرد.