الشرط الأساسي لكل مفكر يحمل هَمَّ الاستبراء لدينه وعرضه ، أن يتوفرَّ على تصور المخوض فيه ، وأن يعرف نواقض دينه ، ليأمن على ضروراته الخمس ، ويتوقى الوقوع في المحذور. فمن تلبس بالحديث عن ظاهرة أو مُتَمظْهر دون استكمال المعلومات ، والضوابط ، والمناهج ، والآليات فقد جنى على نفسه وعلى قبيله. ومن جهل محققات حضارته ناقضها من حيث يريد موافقتها. كما أن من تحدث في غير فنَّه أتى بالعجائب. والجناية والمناقضة تفسدان الحياة والعلاقات ، وتُضِلاَّن السبيل ، وتُفْقِدان الأهلية والمصداقية. وليس عيبا أن يُخطئ المُفكر ، ولكن العيب أن يُصر على الخطأ ، وليس عيباً أن يَشُك ، ولكن العيب ألاَّ يبحث عن اليقين. و[أبو الأنبياء] عليه السلام سبق [ديكارت] في التساؤل ، حين قال : أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى (البقرة:260). والذين تاهوا في بنيات الطريق ، ثم أدركتهم عناية الله تداركوا أنفسهم ، وجَدُّوا في تنقية أجوائهم الفكرية. وكم عرفت مِنْ أساطين الفكر مَنْ عصفت بهم الأهواء ، أو قعدت بهم التبعية الأبوية ، ولم يطل عليهم الأمد ، بل هَبُّوا من تحت ركام الأقاويل ، وخَدَرِ الأهواء ، وأُمَّةِ الآباء ، فكان أن تَحَرَّفوا للتفكير السليم ، وتحيزوا للفئة المنصورة ، فاستقام شأنهم ، واستوى اعوجاجهم ، وتمكنوا من البراءة مما بدر منهم ، أو اكتفوا بما أفاضوا به من قول سديد ، ورأي رشيد. غير أن المتعقبين لهم خلطوا بين المرحلتين ، ولم يتحروا المصداقية ، فكان اضطراب المفاهيم واعوجاج الآراء. والحديث عن المفكرين مدحاً أو قَدْحاً أشبه شيء بالمرافعات القضائية ، يتطلب الاستبانة والبرهان والمصداقية. فالاستبانة تقي من الخطأ بحق الغير. والمصداقية تقي من الخطأ بحق الذات. والبرهان يقطع قول كل خطيب ، فمن استمرأ المجازفة في الأحكام كُتب عند الناس كذَّاباً ، ومن ثم لا يُصَدَّق ، وإن صدق. وكفى المَرْءَ عِبْرة بعلم الجرح والتعديل الذي رفع أقواماً ، ووضع آخرين. وظاهرة التجني بحق الظواهر والمتمظهرين قديمة قدم الإنسان ، فالتاريخ الحضاري للإسلام مليء بالتعديات على الأعراض والأنفس والآراء والمعتقدات. ولو أنصف المؤرخون للحضارة الإنسانية ، لكنا خير أمة أخرجت للناس. وبمثل ما نضيق ذرعاً من القدح المُفْترَى ، نضيق بالتزكية الكاذبة ، وما أكثر الذين يخوضون في آيات الله بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير ، فَيَضِلوُّن ، ويُضِلُّون ، ويُصَدَّعون وحدة الأمة الفكرية ، من حيث لا يشعرون. وعلى كل مقترف لمثل هذه الجنايات ، أن يتذكر أنه مسؤول عما اقترف ، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق:18) فكل نفس تأتي يوم القيامة معها سائق وشهيد. والوَرِعُ من فَكَّر وقَدَّر ، قبل أن يلفظ بحكم ، أو يخطَّ بيده شهادة تزكي ، أو تجرم مخلوقاً سيأتي يجادل عن نفسه يوم القيامة. وكيف بمن يجادل عَمَّن يختانون أنفسهم أحياء أو أمواتا في الدنيا أو في الآخرة؟ هَا أَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (النساء: 109) ومن ذا الذي يجرؤ على الجِدال عَمَّن يجترحون السَّيِّئات. والورِعُون من علماء الجرح والتعديل يتوقفون عن مجهول الحال أو الذات ، والمتسرعون من الكتبة أو المتحدثين حين لا يتورَّعون عن حصائد الألسن ، يَجْنون على أمتهم ، لأنهم يزيفون وَعْيها ، ويَرْبِكون مسيرتها ، ويُرَوِّضونها على استمراء المجازفة في الأحكام. والراصدون لفيوض القول يضيقون ذرعا بتلك السلوكيات المعيبة. ووسائل الإعلام تطفح بالمراء الباطن ، والتناجي الآثم ، وشهوة الكلام دفعت بالعديد من الفضوليين إلى خلط الأوراق ، وتضليل الباحثين عن الحق ، واحتقان الرأي العام ، وتحفيزه لردة فعل عنيفة. والحديث عن ظاهرة قلقة مقلقة ك(عبدالله القصيمي ت 1996م) يحتاج إلى تبصر في الأمور ، وتأصيل للمعارف ، وتحرير للمسائل ، ومعرفة بالأصول والقواعد والمناهج ، فالرجل قضى نحبه بعد أن بَدَّل تبديلا ، وترك وراءه كتباً ، لا يمكن تخليصه من وضرها. والقول بحقه سلباً أو إيجاباً له معقبات من وثائق لا يمكن الفكاك منها ، ويجب علينا أن نَطَّرِح ذات المفكر لنخوض في الفكر ذاته ، عبر كتب هي بنات أفكاره ، لقد رمَّتْ عظامه ، ولَمَّا تزل أفكاره حية تتجدد ، وليس هناك ما يحول دون القول بأن جرأته على تدنيس المقدس ، سَنَّت سننًا سيئة ، لمن جاء بعده ، واجترح السيئات. لقد اعتدت بعد صلاة الفجر من كل يوم أن أَقْضِي سويعات من ذلك السكون ، أركض بها في فجاج المواقع ، وأخوض في أنهر الصحف ، عبر ذلك الجهاز المعجزة ، وما عدت من مثل تلك الرحلة إلا مُمْتَلِئاً بالوحْشَةِ و الاشمئزاز والاستغراب ، مما أسمع وأرى. ومما أثارني تلك التغطية الصحفية عن محاضرة للأستاذ الدكتور (عبدالله القفاري) في أحدية الأستاذ الدكتور (راشد المبارك) في أكثر من موقع.والاثنان أخوان عزيزان عَلَيَّ ، و أثق أنهما على جانب كبير من الثقافة والغيرة على مثمنات الأمة ، وأنهما أهل للحديث عن مثل تلك المعضلات. ويقيني أنَّهُما لا يَرْضيان أبداً أن يكونا فوق النقد والمساءلة ، ويقيني -أيضا- أنهما يبحثان عن الحق ، وأنه لا يسُوؤهما أن يُجْرِيَهُ الله على أي لسان. وحديث الأستاذ الدكتور عبدالله حسب التغطية -إن صدقت- محاولة لتبرئة القصيمي مما نسب إليه من إلحاد ، وذلك ما نخالفه فيه. وثناء على قُدُراته ، وذلك ما لا نختلف معه فيه ، وإن كان دون المدح الباذخ. ومداخلة الدكتور راشد معاضدة ، وتأييد لرؤية المحاضر ، دون تفصيل. يتبع...