خيمة محكمة النسج ، ثابتة الأوتاد ، مشدودة الأطناب ، فسيحة الفناء ، منصوبة هنا في (وادي نعمان) في مكةالمكرمة ، كنت أشعر وأنا أرى جبلَيْ نعمان ، وأرى هنالك أضواء جبال الريان (الهدا) ، وأتأمل القمر المحاط بما زيَّن الله به السماء الدنيا من النجوم ، بأنني أجلس مع الشاعر أبي حية النميري وهو يردِّد على مسمعي: تضوَّع مِسْكاً بطنُ نعمان إذ مشت=به زينب في نسوة عَطِرات وكأنما تجاوبت أرجاء الوادي مع صوته المفعم بالحنين فأعادت إليّ من الأصداء ما حرك المشاعر ، وبعث كوامن الأشواق. هنا خيمة التاريخ ؛ فأنا الآن في ضيافته ، أجالس من تغنى بهذا الوادي العريق من الشعراء ، أستمع إلى ما دبجته قرائحهم من شعر وجداني رقيق. أكاد أرى بأم عيني قيس بن الملوّح المعروف ب(مجنون ليلى) وهو متكئ على حجر تحت شجرة سَلَم وهو يقول: أسائلكم هل سال نعمان بعدنا=وحُبّ إلينا بطن نعمان واديا ألا يا حمامَيْ بطن نعمان هجتما=عليَّ الهوى لما تعنَّيتما ليا بل إن صوته كان يردد وجنبات الوادي ترجِّع: أيا جبلَيْ نعمان بالله خلِّيا=نسيم الصبا يخلص إليَّ نسيمها أجد بَرْدَها أو يشف مني حرارة=على كبد لم يبقَ إلا صميمها فإنَّ الصبا ريحٌ إذا ما تنسَّمت=على نفس محزون تجلَّت همومها ويا ريح مُرِّي بالديار فخبِّري=أباقيةٌ أم قد تعفَّت رسومها؟! ألا إنَّ أهوائي بليلى قديمةٌ=وأَقْتَلُ أهواء الرِّجال قديمها يا لروعة هذا المكان، هنا أجالس الشعراء في خيمة التاريخ ؛ فأجد متعة المكان ، والأنس بالجليس ، وأسمع فيمن سمعت من الشعراء عمر بن أبي ربيعة الشاعر (الغَزِل) المدلَّ بنفسه وهو يقول: تخيرت من نعمان عود أراكةٍ=لهند ، ولكن من يبلِّغه هندا؟! فأشعر بحسرته الكبيرة تفيض ساخنة من قوله (ولكن من يبلِّغه هندا). وكيف لا أشعر بحسرته وهذا التساؤل مفعم بها ، مشتعل بنارها ، وقد جمع بين شغف العاشق ، وحسرته ، ويأسه من لقاء محبوبته ، وهذه خلطة شعرية بامتياز. تخيَّلت أن أولئك الشعراء يستنشدونني الشعر ، وقد طاب لهم الجلوس في خيمتهم التاريخية ، كما طاب لي ، وفي نفوسهم توق إلى سماع شعر يعبِّر عن وجدان عاشق مغرم بظبية فلاة ، أو ببيضة خدر لا يُرام خِباؤها كما قال عفريت الشعر العربي (امرؤ القيس) ، وكنت أنوي أن أسمعهم مثل قولي: شفاه صمتك ما زالت تناديني=وتسكُبُ الصمت لحناً في شراييني ما كنت أعرف صمتاً ناطقاً أبداً=حتى سمعتكَ في صمتٍ تناجيني أكاد أحلف أنَّ الصمت عاصفةٌ=أو أنه من أحاديث البراكين صباح الشهادة يا إدلب=ويا حمصُ ، فيها الأسى يُلهب صباح الشام التي لم تزل=بها كفُّ جلادها تلعب صباح انكسارات بشَّارها=فإني أرى ليله يهرب صباح انتصارات شام العُلا=فإني أرى نصرها يقرب صباحاً تتوق لأنواره=دمشق ، ومسجدها الأرحب صباح السلامة ، لا حيَّة=نُصيرية فيه أو عقرب هنا استوقفوني وهم يرددون بصوت واحد: ماذا تقول؟ وأي خطب أصاب الشام؟ وهل يليق بشاعر أن يذكر من الشام إلا دمشق الهوى والجمال ، والغوطة التي تفوق الخيال ، وجبل قاسيون الباذخ شرفاً بين الجبال؟ وأهازيج خرير نهر بردى ، ووقع خطوات ربات الحجال؟.. ولما هدأت عندهم زوبعة السؤال ، قلت: على رسلكم يا شعراء الظبية ، والحمامة ، والغزال ؛ فدمشق شامنا تعاني ظلماً واعتداء وطغياناً. قالوا بلسان واحد: وأين أمَّة الضرب والطعان ، والسيف والسنان؟ قلت: كما شغلكم الغزل بالصبايا الحسان عن ميادين الفرسان شُغِلتْ أُمَّتكم في هذا العصر بأشكال من الهوى وألوان ، حتى غدت على حالة مؤسفة من الذُّل والهوان. فما راعني من الشعراء الثلاثة إلا نهوضهم غاضبين ؛ فبقيت في خيمة التاريخ وحيداً أردِّد: كنَّا نعالج جرحاً واحداً فغدت=جراحنا اليوم ألواناً وأشكالاً