يقول خير الدين الزركلي في كتابه ما رأيت وما سمعت، سمعت أدباء الطائف يلهجون ببيتين، يكثرون من تشطيرهما لا أذكر اسم ناظمهما، وهما: أحمامة الوادي بشرقي الغضى إن كنت مسعفة الكئيب فرجعي إنا تقاسمنا الغضى فغصونه في راحتيك وجمره في أضلعي وأقول إن قائل هذين البيتين هو يوسف بن لؤلؤ بن عبدالله الذهبي، بدر الدين (607 - 680)، من شعراء الدولة الناصرية بدمشق، ووفاته بها، كان كثير المقطعات اللطيفة كقوله: يا عاذلي فيه قل لي عن حبّه كيف أسلو يمر بي كل حين وكل ما مر يحلو ويقول السيد العباس بن علي الموسوي في الجزء الأول من كتابه نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس عند إيراده قصيدة للسيد محمد بن علي بن حيدر في مدح السيد شبير بن مبارك بن فضل ومعارضاً الشاعر اليمني إبراهيم بن صالح المعروف بالمهتدي وغيره من الشعراء في تضمين بيتي البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي آنفا الذكر والتي مطلعها: نشر النسيم شذى الربى من لعلع فشظا فأكناف الحجون المرّع إلى أن يقول فيها : وتنوح نوحي غير أني باذل للدمع وهي ضنينة بالأدمع أبثثتها سري وقلت مؤملا منها مقاسمة الحنين الموجع أحمامة الوادي بشرقي الغضا إن كنت مسعدة الحزين فرجعي إن تقاسمنا الغضا فغصونه في راحتيك وجمره في أضلعي إن كثيراً من الشعراء في تلك الفترة أنشدوا قصائد على هذا المنوال مضمنين قصائدهم البيتين الشهيرين للبدر أحمامة الوادي بشرقي الغضا، وأضاف السيد الموسوي أن أول من ابتكر هذا التضمين هو علي بن المتوكل الإمام في قصيدته التي مطلعها: صب يكاد يذوب من حر الجوى لولا انهمال جفونه بالأدمع إلى أن يقول: وإذا تغنت في الغصون حمامة هاجت بلابل قلب صبّ مولع سجعت على غصن ولم تذق الهوى مثلي ولم تدر الغرام ولم تع أحمامة الوادي بشرقي الغضا إن كنت مسعدة الحزين فرجعي إنا تقاسمنا الغضا فغصونه في راحتيك وجمره في أضلعي واقترح موازنتها على من يجالسه، فجاراها الأديب السرّاج عمر بن محمد الوزير بقصيدة مطلعها: ذكر الحمى وحلول وادي لعلع صبّ ففاضت مقلتاه بأدمع وضمنها البيتين المذكورين، وهكذا جاراها شعراء كثر. ويقول الزركلي في كتابه، خرجت صبيحة يوم إلى المثناة يرافقني أحد فضلاء الطائفيين، فمررنا برجل أهرمت السنون، فسلم عليه رفيقي وسأله هل يروي البيتين (أحمامة الوادي) فقال نعم وأنشدنا تشطيراً لهما قال هو للوقداني، ثم أسمعنا تذييلاً عليهما للوقداني أيضاً في قصيدة طويلة لم نستطع فهمها من لسانه فكتبها وبعث بها إلينا، هذه القصيدة هي المتداولة بين الناس حالياً على أنها لبديوي الوقداني والتي مطلعها: أحمامة الوادي بشرقي الغضا مالي أراك حزينة لا تهجعي حزني كحزنك لا يزال صبابة إن كنت مسعفة الحزين فرجعي إنا تقاسمنا الغضا فغصونه في راحتيك وجمره في أضلعي فترنمي وتغنغني وتغزلي فوق الغصون وجاوبيني واسجعي إن كان حزنك من فراق فإنني فارقت من أهوى فطيبي واقنعي فارقتهم والدمع يجري سائلا حتى غدا طرفي قريح المدمع رحلوا وسار البين يحدو عيسهم وتباعدوا حتى تباعد مطمعي وتملكوا قلبي وساروا بعدما أن حرّموا وصلي وحلّوا أدمعي ياليتهم جادوا بطيف في الدجى عند الهجوع يعودني في مضجعي فلعل يطفي بعض نيران الجوى ولعل يطفي لوعتي وتوجعي فهو الطبيب إذا أتاني زائرا يا حب من ذا زائري ومولعي لولا الهوى ما حملوا ريح الصبا شوقا إلى أهل النقى والمربع والقصيدة في مدح عبدالله بن عون وهي خمسة وعشرون بيتاً قال في ختامها: خذها إليك خليدة عربية من محض طبع لم يكن بتطبع دامت لك الأيام في إقبالها ويدوم أمرك دائماً في الأجمع ويقول الأديب المؤرخ أحمد محمد الحضراوي في كتابه نزهة الفكر فيما مضى من الحوادث والعبر، بديوي بن جبران بن جبر الوقداني السعدي العتيبي ولد بوادي النمل عام 1244 للهجرة ثم سكن الطائف لتحصيل العلم والمعاش وكان له قريحة بالعربية ثم نظم القريض ولقب بشاعر الحجاز اجتمعت بحضرته بالطائف المأنوس سنة سبع وثمانين ومائتين وألف وقبل هذه السنة لنا معه اجتماعات كثر ومحاضرات لطيفة، وبهذا يكون الحضراوي الوحيد الذي تحدث من واقع مشاهدات حقيقية، وأورد في كتابه المذكور قصيدتين لبديوي الوقداني فقط إحداها: سواجع الشوق باتت في أغانيها تتلو فنون الهوى والوجد يمليها فذكرتني عصورا قد خلت ومضت حيث التصافي وروحي في تصابيها والثانية هي: ما يعطي الله إلا مستحقينا سبحان من سبقت أحكامه فينا كل الأمور التي تجري بقدرته يقضي بما شاء لا يقضي بما شئنا ونلاحظ أنه لم يورد قصيدة أحمامة الوادي، ربما لأنها قيلت بعد هذا التاريخ نظراً إلى أن بديوي توفي سنة 1296 من الهجرة حسب ما جاء في الجزء الأول من الازهار النادية لمحمد سعيد كمال، وإذا سلمنا بأن بديوي الوقداني بشاعريته الفذة وموهبته المتوهجة في الشعر النبطي، يمكنه أن يقول شعراً فصيحاً، خاصة وأنه أخذ دروساً في النحو والعروض عند الشيخ بكر بن علي كمال الذي كان له كُتَّاب وحلقة درس بمسجدي ابن العباس والهادي بالطائف وإن كانت على كبر، إلا أن بعض شعره الفصيح وخاصة قصيدة أحمامة الوادي تشعر من قرائتها أنها تحمل نفس شاعر آخر، سواء من حيث اللغة أو المفردات أو البناء الشعري. هذه القصيدة كانت في مدح عبدالله بن عون وبديوي كان من الشعراء المحسوبين على ذوي عون حيث كان جل شعره فيهم، ولكن في نفس هذه الفترة كان هناك شاعر ارتبط بذوي عون بروابط قوية كروابط بديوي، ولكنه كان شاعر فصحى، حيث سخر جل شعره لهم، ولازم الشريف محمد بن عون ملازمة قوية، هذا الشاعر هو محمود صفوت بن مصطفى الزيله لي الشهير بالساعاتي حيث كان والده يصلح الساعات، ويصنعها، ومن ثم نسب إلى صناعة أبيه. وقد ولد في القاهرة، وعاش في مصر والحجاز وتركيا ونجد واليمن ثم سافر مع أبيه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، وهناك التحق بالشريف محمد بن عون، فأحسن لقاءه، وظل ملازماً له في مقامه ومرتحله وامتد مكوثه طيلة خمس سنوات، صار على أثرها جديراً بكونه شاعر ابن عون. له: «ديوان محمود صفوت» - طبع بمطبعة المعارف - القاهرة 1911. وقدم للديوان الأديبان: مصطفى لطفي المنفلوطي ومحمد المويلحي. يدور شعره حول غرض المدح الذي اختص به آل عون في الحجاز، وأسرة محمد علي التي مدح من حكامها الخديوي سعيد وإسماعيل وتوفيق. وهو شاعر يبدأ مدائحه أحياناً بالفخر الذاتي والغزل على عادة أسلافه من الشعراء، وله شعر في العتاب، كما كتب في الهجاء الذي لم يخل من الظرف والطرافة وخفة الروح كما أن له كثيراً من الإخوانيات. يغلب على لغته التشكيل البديعي في غير تكلف خاصة الجناس والطباق والتورية، مما يؤكد وعيه بتقاليد البلاغة العربية، مع سلامة تراكيبه، وقوة صياغته، وطلاقة خياله، وشعره يعد حلقة ناصعة في إطار تجربة الإحيائيين من الشعراء في مصر. كتب محمود الساعاتي ما يزيد على خمسين قصيدة في الأشراف ذوي عون، وبعض قصائده يزيد عدد أبياتها على السبعين بيتاً، ولا توجد القصيدة محل النقاش المنسوبة إلى بديوي الوقداني والتي مطلعها: أحمامة الوادي بشرقي الغضا مالي أراك حزينة لا تهجعي في ديوان الساعاتي الوحيد المشار إليه أنفاً، وإن قال جامعو الديوان في مقدمته أن كثيراً من شعره فقد، فربما كانت هذه القصيدة مما فقد من شعره، ولكن محمود صفوت الساعاتي له تخميس جميل على بيتي الحافظ الذهبي شأنه شأن أدباء عصره في الإعجاب ببيتي البدر وتضمينهما ومجاراتهما يقول فيه: لما جفاني من أحب وأعرضا ومضى بأيام كبرق أو مضا ناديت كالحيران ضاق به الفضا أحمامة الوادي بشرقي الغضا إن كنت مسعدة الكئيب فرجعي ما دام محجوب الجمال مصونه ينأي وأطراف الرماح حصونه نوحي فكل قد كفته شجونه إنا تقاسمنا الغضا فغصونه في راحتيك وجمره في أضلعي فهذا التخميس يدل على تمكن الشاعر وموهبته الشعرية الفذة، فهو شاعر فصحى يطربك شعره وتسبيك مفرداته وتأسرك صوره الشعرية، فلا عجب أن تكون تلك القصيدة من إنشاده وإبداعه وليست لبديوي الوقداني لعدة شواهد، الشاهد الأول: أنها صيغت بلغة فصحى جميلة لا يكتب بها إلا متمكن من اللغة العربية الفصحى، وفي هذه يتفوق الساعاتي على بديوي. الشاهد الثاني: أنها في مدح عبدالله بن عون والشاعران مدحا الممدوح بأكثر من قصيدة، ولكن بديوي مدحه بالعامية أكثر من الفصحى، أما الساعاتي فمدحه بقصائد رائعة كلها بالفصحى. الشاهد الثالث: أسلوب القصيدة من حيث السلاسة والتسلسل والمفردات والصور الشعرية كلها تقترب كثيراً من أسلوب الساعاتي. الشاهد الرابع: إن الشاعر في هذه القصيدة، بدأها بتشطير البيت الأول فقال: أحمامة الوادي بشرقي الغضا مالي أراك حزينة لا تهجعي حزني كحزنك لا يزال صبابة إن كنت مسعفة الحزين فرجعي ثم أتي بالبيت الثاني كما هو حيث قال: إنا تقاسمنا الغضا فغصونه في راحتيك وجمره في أضعلي وبنى بقية قصيدته على ذات النسق في تسلسل جميل منسجم بدأه بالغزل ثم إلى لب القصيدة وهو مدح عبدالله بن عون، وهذا العمل لا يؤديه إلا شاعر كبير متمكن من أدواته الشعرية وموهبته الفذة. الشاهد الخامس: دأب الساعاتي في ختام أغلب قصائده بمدح القصيدة وتمجيدها فهو في هذه القصيدة يقول: خذها إليك خليدة عربية من محض طبع لم يكن بتطبع في قصيدة أخرى لنفس الممدوح يقول مطلعها: كادت تزف بنا الركاب السّبق فإذا الطريق حماه صلّ مطرق يقول في ختامها: وإليكها بدوية في وسمها يجري عليها في صفاتك رونق ويقول في القصيدة التي قالها في مدح محمد بن عون والتي مطلعها: الزهر مبتسم عن لؤلؤ المطر وفي النسيم شذنا من نشره العطر يقول في ختامها: خذها لآلئ مدح في علاك غدت تسمو على الدر في نظم ومنتثر وفي قصيدة أخرى يمدح فيها عبدالله بن عون الشريف مطلعها: أرى لمع برق في ثناياك مشرق أضاء سناه بين غرب ومشرق يقول في آخرها: وخذها عروباً أعربت عن صفاتكم بلاغتها قد أخرست كل مسلق وهكذا تأتي أغلب قصائد الشاعر الكبير الساعاتي. وجاء في الجزء الأول من «الأزهار النادية» رأى بديوي عبدالله بن محمد بن عون وقد سقط خاتمه وانصدع فصّه فانزعج لذلك، فقال له - أي بديوي - على البديهة: لا تخش يابن رسول الله من حجر رأى المكارم في كفيك فانفجرا وافاك سعدك إذ وافى السعود وقد وافاك سعدا يفلق الحجرا والمتأمل في هذين البيتين من حيث المعنى والمبنى، ومن حيث أنهما مرتجلان يعرف أنه لا يمكن أن يقولهما إلا شاعر فصحى متمكن، وبديوي الوقداني أساساً شاعر عامية كما عرف نا، تعلم بعض النحو والعروض على كبر، فلا يمكن أن يصبح بهذه القدرة الإبداعية الخلاقة بحيث يأتي ببيتين كهذين البيتين وفي لحظة محرجة وأمام شخصية كبيرة كعبدالله بن عون وعلى البديهة، ولو قالها بالشعر العامي لقلنا لا بأس، ولكن الشاعر الآخر الملازم لآل عون وهو الساعاتي، شاعر الفصحى بإمكانه أن يرتجل هذين البيتين، ومن ينظر في ديوانه الشعري يجد نماذج قريبة من هذا، فقد قال عندما كسر بكسر السين غمد سيف محمد بن عون مرتجلاً: فلا تجزعن من كسر غمد فإنه دليل على النصر القريب المعجل حسامك أضحى يابن عون مجرداً فلم يرض غمداً غير هامة .... فقائل هذين البيتين أحرى بأن يكون هو قائل البيتين المذكورين في الأزهار النادية. من كل ما تقدم يمكن القول بأن هناك ما يوحي بشكل كبير إلى أن قصيدة أحمامة الوادي ربما تكون للساعاتي. وهذا الاستنتاج لا يقلل بحال من الأحوال من شاعرية شاعرنا الكبير بديوي الوقداني، ولكنه يطرح بعض التساؤلات حول بعض ما نسب إليه من قصائد بالفصحى والله أعلم.