يبدو تمييز الآخر وعَزْله ومقاومته استراتيجية سردية في رواية (اليهودي الحالي) لتمثيل الوجود الاجتماعي الذي تلد منه وفيه مشكلة الغرام الممنوع بين سالم وفاطمة وتطوراته. إنه -إذن- السياق الذي تنشأ عنه دعوى النص وتُوَجَّه إليه ، وتغدو -من ثم- بؤرة الحكي فيه ، التي يتحدد بها انتظامه في نسق واحد وانسجامه. وتدلنا الرواية على أن التمييز ضد الآخر فيها لا يختص بإحدى الذاتين الاجتماعيتين اللتين تتقابلان فيها ، وهما المسلمون واليهود ، من دون الأخرى. فهو تمييز متبادل بينهما ، وكل ذات منهما تسعى إلى عزل الآخر المقابل لها وانتقاصه ومقاومته ، وتضمر الكراهية له والنفور منه والحقد عليه. وعلى رغم ذلك يعيشان وجودهما الاجتماعي والعملي في تجاور وتخالط مع بعضهما ، وتشارك في النسبة إلى وطن واحد لا يعرفان لهما وطناً سواه. وقد اختارت الرواية مواقف التمييز والعزل والمقاومة ، بما يكشف عن حدتها وجذريتها ، وصدورها من وجهة التخيل للهوية الوطنية والجغرافية والتصارع على امتلاكها من موقع ديني وثقافي. ولهذا برزت استراتيجية المقاومة والتمييز للمقابل من موقع الانتماء إلى الهوية ، وذلك باستخدام ضمير الجمع للمتكلم في مقابل ضمير الجمع للمخاطب أو الغائب ، لغاية التأكيد على هوية مقابلة لهوية مغايرة وبضدها. ويتم في هذا الانتماء استنطاق الذاكرة الدينية والتاريخية تجاه الآخر ، وتمثيل انتهاكه للذات ومأساتها الفردية والجماعية المسببة عنه ، والتضامن وتأكيد الهوية وإعادة بنائها على تمثلات توضع في مقابله. فالهوية لا معنى لها خارج رهان الصراعات والاختلافات الاجتماعية والثقافية التي تجعل جماعة مهيمنة -فيما يقول بورديو- تفرض على الجماعات غيرها هوياتها. ويضاف إلى استراتيجية الانتماء ، استراتيجية الانتقاد للآخر التي تتضمن محاجته وتفنيد دعواه ونقضها وإعادة التأويل له ، وهما استراتيجيتان تندرجان معاً في استراتيجية المقاومة للآخر وتمييزه والانفصال عنه. نرى الانتماء اليهودي استراتيجية مقاومة وعزل للذات عن المقابل المسلم من خلال ما يحدثه الاكتشاف المباغت لتعلم سالم للعربية وقراءته للقرآن من فزع وغضب لأبيه وانزعاج في الحي اليهودي كله: (ظل يقوم ويجلس ، يروح ويجيء، وهو يصرخ: (يا غارة الله .. يا غارة الله). حاولت أمي تهدئته ، وهي تسأله عن سبب صراخه (...): هذا قرآن ... دين الإسلام هذا ... سيفسدون الابن ... سيفسدون ابن اليهودي .. سيفسدون ابن اليهودي) (ص13). (بقي أسعد يتردد كثيراً إلى بيتنا ، يقول لأبي: (هيا عد تمنع ابنك من بيت هؤلاء الكفار الملاعين). (ص17). إنه خوف على الانتماء إلى الهوية الدينية من الانتماء المغاير لها ، وهذا هو معنى التأكيد لها وصيانتها والمحافظة على نقائها الذي يفرض عزلتها عن أي اتصال ديني مع غيرها بقدر الحط من غيرها من الانتماءات الدينية وتطويق أصحابها بصفة الكفر ولعنهم. وإذا كان التكفير واللعن معنيين للطرد من الرحمة والإيمان ، وإخراج للموصوف بهما من وطن الإيمان واليقين العقدي الذي يجمع أصحابه روحياً فإنه متصل في الرواية بالطرد من الوطن بالمعنى الجغرافي ، في مدار للدلالة يردف الوطن بالدين ويضيف أحدهما إلى الآخر. ومن شواهد ذلك في الرواية الموقف التالي: «من أين أنتم؟ سألني حسين ، ونحن نلعب أمام دكان أبيه المجاور لمحل أبي. قلت له: أنا من ريدة .. من هذه البلاد. صاح: مُش حق أبوك .. هذي بلدنا .. أنت يهودي كافر) (ص22). ويشبهه تماماً ما يرد في موقف آخر لكنه بين الكبار هذه المرة أمام الدكاكين المتجاورة لليهود والمسلمين في سوق البلدة: (حين وصل صالح المؤذن أعاد سؤاله المعتاد: متى سترحلون من بلاد العرب ؟ التفت إليه أسعد بغضب بدون أن يتكلم. فرفع صوته: أيوه ، ارحلوا من بلادنا .. وإلا سنرمي بكم في البحر) (ص48). أما تمثيل الخوف والمهانة لدى اليهود من مقابلهم المسلم فيبرز في مواقف عديدة ، فأبو سالم يهمس لأسعد حين يسمعه يصف المسلمين بالكفار الملاعين: (اسكت يا أسعد أنا عند الله وعندك لو يسمعونا) فيجيبه: (مالك خائف هكذا . هم بعيد) (ص17) وحين تأتي فاطمة إلى بيت سالم لتسأل عن انقطاع مجيئه إلى بيتهم ، يقول أبوه لها (أنتم مكانتكم غالية وكبيرة عندنا ، وأبوكم على رأسنا وعيوننا ، والمسلمون كلهم سادتنا ، ولا نقول لهم: لا ، أبداً ..) ويصف سالم ذلك بقوله: (كلماته القلية هذه ، أدارت رأسي في الزمن ، وأيقظت ذهني ، لأكتشف المهانة التي صرت ، منذ تلك اللحظة ، أسمعها في أصوات اليهود ، ألاحظها في خطواتهم وبين أصابعهم) (ص15). وحين هدم المطر بيت أسعد ، فإن سالماً يقول: بدا حزيناً وهو يحدثني: (نحن لا نستطيع بناء بيوت على أساس متين ، لأنهم لا يسمحون لنا بأن نبني أكثر من طابق أو طابقين على الأكثر) (ص58). وفاطمة تمتنع عن ركوب الحمار عندما طلب منها سالم ذلك ، وتقول: (حلمت بذلك حين كان عمري عشر سنوات أو أقل ، لكن أمي نهرتني: عيب ، المرأة ما تعمل هكذا. الرجَّال بس يركب الحمار والخيل) فيجيبها سالم: (نحن اليهود ، أيضاً، لا يُسمَح لنا بركوب الخيل ، والحمار نركبه بشرط ألا نمر أثناء ذلك من أمام مسلم يكون جالساً) (ص82). ويضاعف ذلك أن استراتيجية الانتماء تقوم على تمثيل الخيالات والأحلام التي تتجه إلى الانتقام وتعد بالنصر ، وهي أحلام وخيالات لدعم الانتماء إلى الهوية اليهودية من خلال النبوءة الدينية ، فسالم يروي ما اعتاد أخوه هزاع أن يحدِّثه به عن العلاقات مع المسلمين ، ويؤكّد له مجيء يوم يظهر فيه المسيح المنتظر الذي سيُحوِّل المُلك إلى اليهود ، ويقول لسالم بغضب: (في ذلك اليوم ، سأنتقم من كل المسلمين ، حتى الذين لم يفعلوا بي شيئاً ، يكفي أنهم صمتوا ، سأسقط الأجنة قبل أن يولدوا ... هم أعداء أصلاً ، قبل أن يولدوا ، قبل أن يتكونوا حتى) (ص32). وحين دخلت سنة 1077ه ، وفي شهر رجب أظهر اليهود تململهم ، ونفاد قدرتهم حتى على الضجر. وأيامها ، وصلت إليهم أخبار عن ظهور المسيح المخلِّص المذكور في الكتب القديمة ، فبدت فرحتهم عارمة ، وتغير سلوكهم ، وأخذوا يتوعدون المسلمين بأن يفعلوا فيهم ما يفعله المسلمون الآن فيهم مضاعفاً (انظر ص117-119). وقد استثار هذا انتماء المسلمين في مقابل اليهود ، فأفتى الإمام بأن اليهود خرموا الذمة ، وما إن وصل الخبر إلى أهالي كوكبان وشبام من المسلمين ، حتى بادروا إلى هتك العائلات اليهودية عندهم ، واستدعى الإمام جماعة من كبرائهم إلى صنعاء ، وأمر بإزالة عمائمهم ، والتعزير بهم ، وحبس كبيرهم. وأمر الأمير علي بن المؤيد اليهود بأن يجروا زعيمهم سليمان الأقطع ويسحبوه على وجهه. وفي آخر شهر شوال أمر الإمام المتوكل بمصادرة أموال اليهود ، وقرر عليهم زيادة في الجزية بمقدار عشرين مرة. وفي غرة شعبان من السنة التالية وجّه المهدي بإجلاء اليهود وإعدام كنائسهم. وتخصص الرواية فصلاً لتفصيل مأساة إجلاء اليهود حافلة بمناظر من المسنين العاجزين عن المشي وامرأة تعاني من سقوط جنينها بعد بقائها ليلة بدون غطاء يقيها البرد ... إلخ ثم تنتهي المأساة بالسماح بعودتهم إلى صنعاء (ص118-138). وتبلغ الرواية باستراتيجية الانتماء التي اختطتها لتوليد بؤرة حكيها ودعواها النصية ، ذروة الدلالة في تمثيلها لحدث موت فاطمة بعد أن تزوجت سالماً الذي لقبته باليهودي الحالي ، وبعد ولادتها لابنهما سعيد مباشرة في صنعاء التي هربا إليها ليسكنا فيها مع خاله. فقد تم دفن فاطمة في مقبرة اليهود ، وحين علم اليهود أنها مسلمة ، فتحوا قبرها ونقلوا جثتها إلى مكان معزول عن قبور اليهود ، وقالوا هي مسلمة ، كافرة. وتبع ذلك أن قامت زوجة الخال بطرد سالم وابنه المولود ، طالبة منه أن يذهب به إلى المسلمين ، فذهب يبحث عن أخت فاطمة التي تزوجت واستقرت في صنعاء من قبل مستجدياً الشفقة على ابنه ، وحين وجدها طردته قائلة: إن أختها فاطمة ماتت منذ تزوجت يهودياً ورحلت معه. (ص95-96). هكذا نجد استراتيجية الانتماء تبرز في الرواية في التضامن بين الأفراد بجامع العقيدة الدينية ، والخوف عليها الذي بلغ درجة من الذعر والفزع ، وأخذ شكلاً جماعياً ينتقص من مسؤولية الفرد الذاتية والحرة تجاهها. وهو خوف يؤكد الانتماء ويبرهن عليه مثلما يحيل ما ينتج عنه من لعن للمقابل الديني له ووصفه بالكفر إلى دلالة التأكيد نفسه على الانتماء الديني. وليست الدعوة الموَجَّهة إلى اليهود بمغادرة المكان والجلاء عنه وإيقاع الأذى والمهانة والمحاصرة لهم بأشكال من المنع والتقييد وفرض الاختلاف إلا دلالة على تأكيد الانتماء من وجهة مقابلة. وقد استحالت تلك المهانة والعذابات إلى تمثيل يؤدِّي لمن وقعت بهم دلالة الحشد تجاه الآخر ، ويؤكِّد في المؤدى نفسه الانتماء الديني الذي كان سبباً في المعاناة وأحالها إلى تضحية مقدسة. ويبدو الاستناد إلى النبوءة الدينية في ظهور المسيح المخلِّص وانتصار اليهود عاملاً إضافياً في تقوية شعور الانتماء لديهم ، وترميم أي اهتراء محتمل فيه ، كما يبدو عزل قبر فاطمة عن القبور ذروة دلالية ترسمها الرواية للبلوغ باستراتيجية الانتماء التي تنبني عليها استراتيجية الدلالة على تمييز الآخر الديني ومقاومته وإقصائه مداها الأبعد. لكن دلالة الانتماء على تمثيل التمييز والمقاومة ، في الرواية ، لا تكتمل من دون استراتيجية أخرى تقوم على انتقاد الآخر ومحاجته ونقضه بما يؤكد الانفصال عنه لا الاتصال به والاختلاف عنه لا التوافق معه. وتأخذ هذه الاستراتيجية أشكالاً مختلفة من التساؤل والنفي والسخرية والبرهنة العقلية والنقلية. فحسين –مثلاً- يقول لسالم وهما صغيران: (أبي قال لي إن اليهود لا يحق لهم أكل الحلوى العدنية) فيرد سالم (ما أعتقدش) فيرد سريعاً: (أقول لك قال أبي ، تقول: ما أعتقدش ؟) وفي البيت يشرح أبو سالم له ، قائلاً: (هذه الحلوى تُجلب من عدن ، هي مرتفعة الثمن ، ولا يأكلها إلا الإمام وعمّاله وحاشيته. لا يستطيع الحصول عليها ، لا اليهود ولا المسلمون) (ص23-24). وفي مقابل كلام المؤذن الذي يكرر مطالبته لليهود بالرحيل ، يروي سالم: (بدا على أبي الضيق ، قال: أين نروح .. أين بلادنا؟) (ص35). ويبدو التهكم والاستخفاف كما يبدو الاستدلال في المحاجة بين أسعد والمؤذن حين قال المؤذن: أيوه ، ارحلوا من بلادنا .. وإلا سنرمي بكم في البحر) فقد أخذ يحرك يديه وعينيه بانفعال: (البحر ، ما بش غيره .. سنرمي بكم في البحر)!. قال أسعد: (لِلْمَه ، ترموا بنا في البحر .. سنسير بلادنا أورشليم) فيرد المؤذن: (أورشليم .. هه؟ القدس مش حق أبوكم ، هي حق المسلمين) وتمضي الرواية في سرد المحاجة ، فيقول أسعد: (من أين جاء اليهود ، ألم يخلقهم الله .. أنت سيد العارفين ، وتعرف حكايات اليهود مع يعقوب وموسى وهارون ويشوع ، وما جرى لهم في مصر ، ومع ملكي آشور وبابل و ...) إلى أن يقول: (افهموا القرآن ، حين يقول إن الله كتب الأرض المقدسة لقوم موسى ، وأنه لم يحرمها عليهم سوى أربعين سنة يتيهون فيها على الأرض عقاباً لهم لعدم مصارعتهم القوم الجبارين الذين كانوا فيها) ويرد المؤذن: (هذا تفسيرك اللعين للقرآن) فيجيبه أسعد: (اعطني تفسيراً آخر لو في عندك) ويمضي في إيراد أقوال قتادة ومجاهد وابن عباس والسدي وعكرمة وابن يزيد والزجاج والكلبي والضحاك ... ويطالبه بالرجوع إلى عدد من كتب التاريخ. ويمضي المؤذن في الرد عليه مورداً ما ينقض ذلك من الأقوال (فقد قيل إن (أربعين سنة) ظرف لقوله (يتيهون في الأرض) أي يتيهون هذا المقدار ، فيكون التحريم مطلقاً ، والمؤقت هو: التيه ...) (ص48-52). كما يرد الاعتراض والنقد لزواج اليهوديات من المسلمين ، مقابل منع المسلمات من الزواج باليهود (ص93). هذا الاعتراض الحجاجي والنقضي لدعوى الآخر ، يبدو خطة استراتيجية في الرواية ، توازي ما رأيناه من دوال التأكيد على الانتماء وتمثيله وتضاعف دلالته في تمثيل استراتيجية المقاومة والتمييز ضد الآخر والانفصال عنه وإقصائه. وهي استراتيجية لتمثيل فضاء التعصب السوسيو ديني وثقافي ، ورسم دلالته الخانقة التي تغدو شرطاً لحدث الغرام المتولّد فيها بين فاطمة وسالم اليهودي الحالي، والمنتهي بهما إلى جرم الزواج المحرَّم بطلب من فاطمة وليس من سالم ، وما تطوَّر عن ذلك ومعه من أحداث ، بحيث يغدو ذلك الحدث خرقاً لمتصل التعصب ومجاوزة له ، ويمتلك بذلك شرطه بوصفه حدثاً ومعناه بوصفه دلالة. ولن يغيب عنا ، في ثنايا ذلك، وجهة النظر التي نرى من خلالها ، وهو اليهودي الحالي سالم الذي يروي الرواية ، فتلك الاستراتيجية لا تنبني ، في منظور القراءة، على منظور الحياد بين الذاتين الاجتماعيتين ، بل على نبذ التعصب واستفضاع آثاره ومفاعيله فيهما. أما مرجعية هذا التعصب ، فعلى رغم أنها كامنة دوماً في كل تقابل لاختلاف الذوات الاجتماعية ومستنداتها التاريخية والثقافية ، فإن الرواية تحيل التعصب على الصراع على السلطة والقوة والهيمنة ، وتشير خصوصاً إلى طبيعة السلطة السياسية في اليمن في زمنها التي يقوم فيها حكم الإمام على العصبية واستجاشتها لمشروعيته دينياً وقبلياً.