يبدو بوضوح في روايات يوسف المحيميد تقدم المضمون على الشكل، وذلك في مقابل توازن الشكل والمضمون أو تقدم الشكل، وهي ثلاثة تجليات تسم الإبداع الأدبي من حيث هو علاقة بين أشكال ومضامين. وأتصور أن هذه الخاصية التي تسم منجز المحيميد السردي تمثل تجليًا ثقافيًا لوجهة الإصلاح والحقوق التي برزت بشكل ملموس في عهد الملك عبدالله، متزامنة مع مواجهة صدامية مع الثقافة التقليدية المحافظة، وإفرازات التشدد الديني التي بلغت ذروتها بحادثة 11 سبتمبر 2001م وما تلاها. وهو مدار لا ينفصل عن ما بلغته في الفترة نفسها ثورة الاتصالات والمعلومات من مدى مشهود في عالم الشبكة العنكبوتية والتلفزة الفضائية، ومن اتساع هامش التعبير وأدواته، وما شهدته الثقافة السعودية من طفرة الرواية التي تعني تكاثر إصداراتها بشكل يفوق كل حساب. ولهذا تغدو خاصية تقدم المضمون على الشكل في منتج المحيميد الروائي جزءًا من سمة كلية تسم معظم النتاج الروائي السعودي في هذه الفترة، إن لم يكن كله. والتفسير الثقافي لهذه الخاصية، يصلها من غير شك بمجمل الوضع الثقافي الذي تفاعلت فيه الوقائع التاريخية المذكورة أعلاه، بحيث تغدو تلك الخاصية تجاوبًا مع أسئلة ما، وناتجًا إبستيميًا لها، في مسافة التحول والانفتاح التي لا تنفك عن وقائع المواجهة مع عوائق الذات الاجتماعية ومخاوفها، ومع العالم الذي أصبح ينتهك معاني عزلتنا الثقافية، ويولِّد بفضوله واسترابته ومخاوفه منا، أسئلة ثقافية واجتماعية ذات مغزى نقدي سافر. ومعنى ذلك أن رواية المحيميد كما هي الرواية السعودية المجايلة لها تفسر الصحة والعافية من وجه، وتفسر الاعتلال والمرض في ثقافتنا ومجتمعنا من وجه آخر. إن المضمون الروائي لروايات المحيميد يحيل على فكر التنوير بوصفه إعادة تكوين للوعي بما يفضي إلى خروج الإنسان من القصور الذي ينتج عن غياب فرديته الذاتية، بسبب خوفه أو جهله أو الوصاية عليه، فيكون قادرًا على نفي الواقع البائس وفق نظرة نقدية عقلانية متجددة. وهذا المضمون من حيث هو مقتضى وعي، وحالة يقين، يمتلك، في ضوء وعي المرحلة، حضورًا ضاغطًا وبطابع توجيهي، وهو ما يؤول إبداعيًا إلى بروز ثيمات ذات دلالة اجتماعية وواقعية أكثر من غيرها، وبالقدر نفسه تظهر وجهة نقدية حادة، وتحمل أحيانًا تعليقات مباشرة، في دلالة على النفي لأي شك أو ارتياب، وتصعيد لهيمنة صوتية من وجهة دون أخرى. ومن هذه الوجهة يأخذ أبطال المحيميد خاصية نسقية تؤلفها المظلومية تجاه المجتمع في استبداده بهم، وتختص بالشباب والنساء على وجه التحديد، أي بما هو معيار للتحول والتجدد ومجهر للكشف عن الثقافة وانفتاحها وسبر حركتها باتجاه المستقبل. وقد امتلأت روايات المحيميد بالشخصيات النسائية، وكان لبعضهن كما هو حال «منيرة الساهي» في «القارورة» دور البطولة، أو الشخصية الأولى. ولغيرهن كما هو حال، نهى، وثريا، وطرفة الصميتان في «الحمام لا يطير في بريدة» أدوار ثانوية ولكنها في الصميم من استراتيجية الرواية ودلالتها التي تترامى إليها. وتجتمع الشخصيات النسائية لدى المحيميد في تمثيل دور الضحية للثقافة الذكورية، فهي منتهكة ومخدوعة وسجينة ومتهمة ومضروبة ومغتصبة ومهانة ويمارس ضدها التمييز لكونها امرأة. وتبرز، في نماذج عديدة منهن، صفة المرأة الخاطئة، أو امرأة الخطأ والخطيئة حيث خيانة الزوج والتمرد على الأهل والمجتمع، وذلك في ترتيب على انتهاك ثقافي سافر تجاهها، يمثله زوج قاس وبخيل ومستبد، أو أم وأب وإخوة يفرضون طوقًا محكمًا من الرقابة والاستلاب عليها، بحيث يتولد عن ذلك فضول محموم إلى التجربة، أو رغبة في الانتقام، أو ممارسة واهمة لتحقيق الذات. وإذا كانت البطولة في شخصيات المحيميد ذات نسق شبابي طاغٍ، فإن بطولة المرأة، على وجه خاص، تخرق لديه هذا النسق فتنهض ببعض الأدوار نساء راشدات يشارفن الأربعين، كما هو حال ثريا مثالًا لا حصرًا. ومؤدى ذلك هو الدلالة بدور المرأة على جنسها النوعي وليس عمرها، وفي ذلك دلالة على معاناتها الثقافية الاجتماعية بوصفها أنثى. وهو المؤدى الذي يباشر بدلالته قلب الكينونة الثقافية وجوهرها الذي تحتل المرأة منها مكان الحساسية التقليدية ضد التحول والتعليم والاستنارة والعمل والتحرر. ومن اللافت أن تبدو لدى المحيميد أغلب نماذج الشخصيات النسائية تلك، بصفات القوة والجرأة والاقتحام التي تذهل، وفهد السفيلاوي في «الحمام لا يطير في بريدة»، يقول شاكيًا إلى صديقه: «أنا أعرف أن الشباب هم من يبتز البنات ويهددونهن، كيف هذي الآدمية تهددني؟». لكن ذلك يأخذ بوضوح مدار النمذجة التي تندرج ضمن استراتيجية الرواية، في مقابل دلالة الحصار التي يفرضها الرجل، في مواقف عديدة، أحدها -مثلًا- رجل بائس يقف بطفلته المريضة أمام شباك الصيدلية وحين يراها فتاة سعودية، تحضر له الدواء، يصنع حركة فاحشة، تفر منها مذعورة إلى أقصى المكان!. هذا المسلك في استراتيجيات المحيميد الروائية، يجد مرجعية المقاربة له في النظريات النسوية، فهو ينم عن وعي بالكتابة عن المرأة بما يعرِّي التسلط الذكوري القاهر عليها. وهو مسلك يندرج في سياق المضمون التنويري الذي ولَّد الإنسان الحديث بحقوقه وواجباته، وصارع به صنوف التسلط والتمييز العنصري. فالمرأة كالرجل في اندراجهما ابتداءً في المعنى الإنساني، وهو معنى يأبى التمييز ويجرِّمه. وبالطبع فإن ذلك لا يسوغ دونما وعي بالإنسان من حيث هو إنسان، لا يميزه من منظور الثقافة المستنيرة أي شيء، عن أخيه الإنسان في الصفة الإنسانية. وهذا هو ما يصلنا بالحديث عن ثيمة الآخر التي كانت أحد مضامين السرد الروائي عند المحيميد، فالآخر موضوع لقياس انفتاح الثقافة وإنسانيتها، ولسبر استنارتها وخروجها من عصور الظلام والانغلاق والعنصرية. وثيمة الآخر تأتي لدى المحيميد من وجود شخصيات مختلفة في انتماءاتها، وهي شخصيات ذات انتماءات عربية إسلامية، أو سعودية من مناطق المملكة المختلفة، أو غير هذا وذاك. وتكشف روايات المحيميد من خلال هذه الثيمة عن مبلغ الضيق والانغلاق والتعصب الذي تعيشه الثقافة التي تعبر عنها الروايات، وعن ما تحتشد به من إقصاء وكراهية وتشويه تجاه الآخر في مداه القريب والمتوسط والبعيد. ولكنها في الوقت نفسها تغدو هي عرضة للإقصاء والكراهية ووسمها بكل معاني التخلف، وذلك فضلًا عما تكشف عنه ثيمة الآخر من التناقض واللامعقولية في الثقافة، ومن تزييف الادعاءات والشعارات التي تتباهى بها. وهو واقع تسلك الرواية في تجسيده مسلك المقارنة أحيانًا من خلال رصد سلوك الآخر تجاه الذات حين تسافر الشخصية إلى المجتمعات الأخرى وخصوصًا الأوروبية. إن أم فهد السفيلاوي، الشخصية الأولى في «الحمام لا يطير في بريدة» هي امرأة من جنسية عربية، وقد تزوجت من أبيه سليمان، الرجل القصيمي الذي خرج من السجن، بعد أربع سنوات قضاها متهمًا بالعلاقة مع جماعة جهيمان. وهو الأمر الذي جعل العلائلات القصيمية تشعر بالعار في إصهاره إليها. وقد أبرزت الرواية مبلغ الرفض الشديد لزواجه من أجنبية الذي تزعمه أخوه أبو ياسر المشتغل بالدعوة إلى الدين والعامل في إمامة احد الجوامع، وذلك بحجة أنهم لا يعرفون أصلها وفصلها، وقد تهافت أبو ياسر هذا إلى الزواج منها بعد موت أخيه، في دلالة تريد بها الرواية أن تفضح مقدار الزيف والعبثية في موقفه. أما فهد السفيلاوي ابنها فقد أرتنا الرواية مقدارًا فظيعًا من الهتك له لأن أمه أجنبية، وكان الأطفال في المدرسة ينادونه أثناء لعب الكرة بعبارات نبز وانتقاص. وقد كان نسب أمه العربي مثار تهكم حين قبض عليه، وذلك بالقول تعليقًا على إجابته بأنه سعودي: «يعني مهجّن!». ولا يقل الآخر السعودي عن العربي انتقاصًا في ما تفصح عنه الرواية، فسعيد ابن مشبب الجنوبي صديق فهد، وابن صديق والده الذي انتهى إلى الهلاك مع الجماعة السلفية المحتسبة في الحرم المكي الشريف، يُحْظر عليه من قبل عم فهد أن يدخل البيت، قائلًا على سبيل التحذير لأم فهد: «يعني أبوه إرهابي من جماعة جهيمان، وهو من أهل صفر سبعة المنحلِّين، كيف يدخل البيت؟ لا وألقاه بعض المرات بالمجلس بفانيلة وسروال!». ودلالة صفر سبعة هنا دلالة نسقية بمعنى أنها تحيل إلى ما نعرفه قبل أن نقرأ الرواية، وهي عبارة تداولها الألسن في المملكة لوصف أهل الجنوب الذين يجمعهم مفتاح منطقتهم الهاتفي (07) وهو آخر أرقام فتح المناطق ترتيبًا بالبدء من واحد. وتبدو الملابس الدالة على الأجنبي علامة نبز له، فجد فهد العربي وقد جاء غريبًا على الرياض وتقاليدها، يحكي عن النوّاب زمن الستينات، كيف كانوا في شارع الوزير يهزون العصي في وجوه الغرباء الذين يلبسون البنطال وهم يدعونهم: الصلاة... صل يا أبو مقص! والمقص هنا إشارة إلى الساقين داخل البنطال التي تشبه في نظرهم شفرتي المقص!. ويقوم التعارض في الرواية حادًا لدى المحيميد بين خطاب ثقافي يلوذ بالماضي، وينادي بالانغلاق، حفظًا على أصالة المجتمع وطهوريته. وفي هذا الوجهة تقفنا الرواية على رؤية تنبذ العصر ورموزه وأدواته، فالصور المعلقة في البيوت لدى العم هي في الحرمة قرينة مكبرات صوت الأذان التي احترف سليمان السفيلاوي في أيام تشدده رميها وإخماد صوتها بالبندقية الساكتون. والفن التشكيلي الذي كان فهد موهوبًا فيه هو أيضًا حرام لأنه يرسم الناس والكائنات من وجهة نظر عمه وهو في هذا لا يختلف في الحرمة عن الموسيقى والغناء. وتبدو أفكار الجماعة السلفية آية في الغرابة سواء في موقفها من دوران الأرض وكرويتها، أو من دراسة الأبناء في مدارس الحكومة. وللطب الحديث نصيبه من الازدراء والتهوين، فالرقية والأعشاب في هذا الخطاب هي الشفاء المضمون. لكن هذا الخطاب ذي الهوية التي تدعو إلى الثبات والمعاداة للتغير والزمن لا دلالة على وجوده في الرواية إلا من خلال خطاب نقيض يصف ما يغتلي به المجتمع مما هو على الضد من دعاوى الخطاب السابق، وهنا ندلف حقًا إلى تعارض حاد، فشبكة النت والمسنجر أتاحت لفهد التعرف على طرفة، وسميرة أو سمير كما يسميها البنات باب للتأشير على الشذوذ، ومحلات الباعة البنغال تبيع سرًا بطاقات القنوات الجنسية المشفرة، وهذا كله بإزاء ما يشيع في الرواية من أسماء المحلات والشركات باللغات الأجنبية «ليدي سيلكشن» «مون بيبر» «بيسك هاوس» مقهى «ستار بوكس... إلخ. ويلفت النظر لدى المحيميد انتهاء أبطاله إلى الهزيمة والانسحاب، ففي «الحمام لا يطير في بريدة» ينتهي فهد السفيلاوي إلى الهجرة إلى بريطانيا. وهو حدث تنتهي به الرواية، بقدر ما تبدأ به، لأنها تبدأ به راكبًا القطار متوجهًا إلى لندن، ويأخذ في تذكر أحداث الرواية، لننتهي إلى قراره الهجرة وحصوله على التأشيرة البريطانية. وإذا كانت هجرة فهد هزيمة وانسحابًا فإن العدوان على منيرة الساهي وخديعتها هزيمة ساحقة لها بكل المعاني، ومن اللافت أن هاتين الشخصيتين تحملان صفة ثقافية، فمنيرة صحفية ومثقفة، وفهد فنان تشكيلي مرهف الحس وواسع الاطلاع. وهذا يعني أن الثقافة الإبداعية تؤول في السياق الثقافي الذي تحكيه الرواية إلى الانتهاك والإقصاء، وهذا معنى تهدف الرواية به إلى تعميق وظيفتها التنويرية والشعور بثقل وطأة الواقع. * ناقد وأكاديمي