حين نقرأ عنوان رواية الروائي اليمني علي المقري (اليهودي الحالي) (بيروت: دار الساقي ، 2009م) ندرك أن ثيمتها الرئيسة تقوم على علاقة الذات بالآخر ، وذلك لأن صفة اليهودي في العنوان هي نسبة دينية ولا معنى لنسبة كائن وإنمائه على هذا النحو إلا في مقابل ذات بالمعنى الذي يخصص الذات هنا في انتمائها الديني. أما أن يكون اليهودي هو الآخر في هذه الرواية ، فهي آخرية لا يدل عليها ، فحسب ، اسم المؤلف الذي يعلو العنوان معيناً نسبة إسلامية ، بل تدل عليها النسبة ذاتها التي تتضمنها صفة اليهودي ، لأنه لا معنى لمثل هذه النسبة من دون أن تكون في سياق آخريتها أو في مقام التلفظ بها لمجاورة المختلف عنها وحضوره في قبالتها. وقد كانت عبارة العنوان هذه ، ملفوظ فاطمة المتكرر للفتى سالم اليهودي ، في متن الرواية من خلال حكاية الغرام بينهما التي تمثل صلب الرواية وقاعدتها السردية. ولهذا فإنها ملفوظ للدلالة على الآخرية ، التي تصطحب في هذه الحالة بالضرورة سياق الوجود وسياق الذاكرة ، لمضاعفة تلك الآخرية بدلالة القلة اليهودية في دولة اليمن كما هو معروف ، وبدلالة التوتر والشحناء القديمة الجديدة تجاهها في الذاكرة العربية الإسلامية. وتزداد تلك الدلالة إثارة من خلال تشخُّصها في ذَكَر يهودي وفتاة مسلمة ، وليس العكس ، فالأنثى في الثقافة دلالة ضعف وحماية ، ودلالة كثافة للمحافظة على الهوية وتقديسها والصيانة الشديدة لنقائها. أما دلالة (الحالي) التي وردت صفة لليهودي ، وتعني الوسيم أو المليح ، فتؤشر على منظور الرواية الذي يكسر نمط العلاقة الثقافية العربية باليهود ، ويخرق متصل الخطاب لتوليد إثارة وخلق حدث بالمعنى الروائي والتداولي. وهو منظور تترامى به الرواية إلى ممارسة دور نقدي تجاه الثقافة لتوليد معان إنسانية ووطنية بمنجاة من التعصب والكراهية والاحتشاد بالبغضاء والمكائد المتبادلة. ولم يقتصر هذا الدور النقدي على الثقافة العربية الإسلامية إجمالاً ، ولا على الثقافة اليمنية خاصة ، بل مارس الدور نفسه تجاه الثقافة اليهودية المليئة بالتعصب والكراهية. كما لم تقتصر الآخرية هنا على اليهود بل أظهرت آخرية أخرى في اليمن ، تتمثل في أصحاب بعض المهن كالقصَّابين ، في دلالة على أن فضاء التعصب لا يكف عن توليد أوهام الذات المشوِّهة لإنسانيتها وعقلانيتها. وقد أضاف خطاب الرواية إلى منظور العكس والخرق ، روايتها على لسان اليهودي سالم ، الذي يرويها بضميره المتكلم ، مؤلفاً مع فاطمة ، ثم مع ابنهما وزوجته فحفيدهما الذي يستأنف رواية فصلها الأخير ، ذاتاً ثالثة تخرج عن ثنائية الذات والآخر ، وتجمع طرفيها المتنابذَيْن في الوقت نفسه مولِّدة مزيجاً من رؤية ثقافية إنسانية متسامحة ومضادة للتعصب والإقصاء والكراهية المتبادلة. وهذا العكس أو الخرق من جهة الراوي هو ناتج القياس على مؤلفها اليمني العربي المسلم الذي منح آخره اليهودي الذي يشاركه في الصفة الوطنية لساناً ينطق ورواية تحكي بطولته التي كانت خرقاً ثقافياً صاعقاً بأكثر من معنى. ويتضح ذلك باستبدال افتراضي نتصور فيه أن المؤلف يهودي يمني ، بحيث يبدو التطابق أو التجانس بينه وبين بطل الرواية ، ففي هذه الحالة ، وعلى الرغم من أن مغزى الرواية المضاد للتعصب وإقصاء الآخر لن يبرح ، فإننا سنفتقد لخرق المتصل وما يولده صدورها عن معين ثقافي ذي كثرة وهيمنة من عكس التوقع وكسر العادة. لهذا فإن الرواية من زاوية الاختلاف بين مؤلفها وبطلها تتجاوب مع ثيمتها وحدثها الأساس وتعزِّز صدقية رؤياها الإنسانية ودلالاتها النقضية تجاه الدولة الطائفية ، التي تبدو بالضد من المعاني المدنية التي تؤلِّف العقد الاجتماعي على مبدأ المواطنة والعدالة والمساواة ، وتنتج الحقوق وتحميها. وهو مغزى يجاوز التاريخ إلى الحداثة ، والماضي إلى المستقبل ، والعزلة إلى الانفتاح ، والتخلف إلى التقدم ... تلك المتقابلات التي اتخذت الرواية استراتيجيتها السردية في توليد الاصطراع لدى قرائها معها ، وتكثيف حسها الإشكالي فيهم بما يجاوز انحصارها في التعصب ضد آخر اجتماعي بالتعيين ، إلى التعصب ضد الذات الذي يولِّده حرمان هذه الذات من اكتشاف الإنسان فيها ووراءها ، بحيث تؤول إلى ذات متوحشة! إن (اليهودي الحالي) رواية تحكي عن التاريخ وليس عن الحاضر ، فراويها يعلن في أولها بداية تدوينه لها ، حين دخلت سنة 1054ه (=1644م) وتبدأ أحداثها قبل سبع سنوات من هذا التاريخ ، وتمتد إلى رواية الحفيد عما حدث له بعد عام 1125ه بقليل. وهذا تجذير زمني تضاعفه الإحالة على أسماء أئمة الدولة اليمنية في ذلك الزمن: المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، وخليفته أحمد بن الحسن ، الملقّب بالمهدي ، والأمير علي بن المؤيد ، الملقَّب بجمال الإسلام ، والأحداث التي عاصروها ، إلى جانب التجذير المكاني للرواية الذي ابتدأ في موطن سالم وفاطمة في قرية (ريدة) اليمنية ثم لهما ولابنهما وحفيدهما في صنعاء. وليس لذلك -بالطبع- أي معنى ما لم نأخذ ما تنبني عليه الرواية ، وكل رواية تاريخية -على نحو ما لاحظ جورج لوكاتش- من صلة محددة بالحاضر تجعل الحياة الحاضرة على ما هي عليه. لكن اكتشاف صلة الرواية التاريخية بالحاضر ، لا يعني ضرورة الإحالة على قصدية المؤلف ، بحيث تغدو قراءة النص تقييداً للمعنى بتوهم حقيقة تشدُّه من خلفه هي ما أراده الروائي ؛ فقراءة من هذا القبيل هي قراءة تفتيشية وبوليسية أكثر منها قراءة إنتاجية أدبية. لذلك فإن الكشف عن مثل هذه الصلة التي تجمع بين الماضي والحاضر ، وتعطف الجديد على القديم ، هي إحالة على مقروئية النص التي تبتدئ منه لا من شيء قبله ، وهو ما يؤدي إلى انفتاحه بالقراءة لا انغلاقه واتساعه بقرائه لا ضيقه. وقد كان تجذير رواية (اليهودي الحالي) في التاريخ ، كما رأينا ، إضفاءً لقيمة تداولية ، بالتحديد لمقام سوسيو ثقافي ، يؤلف الرواية نظيراً لمرجع خارجي ، ويطبعها بأثر لمعنى الواقع. ونتيجة ذلك تعني أن ما تولِّده الرواية من معنى هو ناتج علاقات واقع سوسيو ثقافي ، أحسنت الرواية اختيارها وبناءها ، بما يجعلها دالة على ما يجاوز لحظتها ومكانها. ولم يكن للتاريخ في هذه الرواية هيمنة بادية ، فليس لمن يقرأها أن يستشعر وثائقية تاريخية تماهي الرواية في المرجعي ، أوتقنِّعها به ، وتستعيره لها. فأبطال الرواية الفاعلون ، وأولهم اليهودي الحالي ، مختلَقون ، والحبكة التي تجمعهم وترتب سيرورة الأحداث وتطور الصراع بينهم ومعهم وبهم ، خيالية. وهذا يعني أن العلاقة بالتاريخ ، هنا ، هي علاقة اصطناع لخلفية تجري الرواية عليها أحداثها وحبكتها الخيالية ، وتنشئ عالمها المنفتح على قضايا عاطفية وسياسية واجتماعية لم يكن لكتب التاريخ أن تحفل بها. وهي على عكس الشائع في العودة –روائياً- إلى التاريخ وتوظيفه واستلهامه حيث تبرز النزعة القومية التي تستشعر أمجاد الماضي وتقصد الكشف عن صفحاته الناصعة والفهم لانكساراته ، والدوران حول القيادات التاريخية وأرباب السلطان ومن في معيتهم ، حتى وإن كان ذلك -كما هو بارز في روايات تاريخية عديدة- بمعنى انتقادي ، أو يصنع إسقاطاً ورمزية على الواقع الحديث والمعاصر. إننا ، هنا ، خلافاً لذلك ، بصدد تاريخ مسكوت عنه وأبطال منفيين وهامشيين ومجهولين تاريخياً. أما تجذير هذه الشخصيات وأحداثها في حقبة ماضية ، من تاريخ اليمن ، وذلك باصطناع خلفية من القرن السابع عشر الميلادي تتخلق فيها الرواية وتتأطر بها ، فإنه يستثمر التاريخ الذي يتوتَّر دوماً في علاقة مع الحاضر والمستقبل من جهة الرغبة في مجاوزته أو من جهة الرغبة في العودة إليه والإجلال له ، وهما وجهتان لا تنفصمان عما يؤلفه التاريخ في حسابات الهوية الاجتماعية والثقافية ، التي تستند بالضرورة إلى شكل سردي للماضي. هنا تبدو إشكالية العلاقة مع الآخر في صلب التكوين التاريخي للهوية الثقافية الاجتماعية ، وقد كانت تلك الفترة التاريخية في اليمن داعمة لصدقية ما تؤشر عليه الرواية من تعصب وإقصاء للآخر ، بسبب تخلف مستويات التعليم فيها ومجافاة الاستنارة العقلانية وهما أمران متصلان بتغول السلطة واستبدادها في ذلك الزمن واستمداد شرعيتها واستمرارها من وقود خطاب ديني شديد الانغلاق والتعصب. وبالطبع فإن فكرة الآخر واصطلاحه بالمعنى الفلسفي والحقوقي الإنساني والاجتماعي والثقافي فكرة حديثة عالمياً. وقد أخذت دلالتها المجرِّمة للتمييز والعنصرية والإقصاء للمختلف ، ضمن ترقِّيات الوعي الإنساني المتدرجة ، في معاني الحرية والعدالة والمساواة ، ونهضة الفكر العقلاني النقدي ، ونشأة نظم الحكم الديمقراطية والمنظمات والهيئات الحقوقية الدولية. لكنها عملياً لازالت إشكالية تعيش مآسيها الدول المتخلفة والمتقدمة بدرجات متفاوتة ، وهذا يعني ، ضمن ما يعني ، أنها دلالة تكوينية في مفاهيم الذات والهوية والسلطة والمجتمع واللغة والثقافة ، كما يعني أن تمثيلها سردياً ، كما في حالة (اليهودي الحالي) التي نحن بصددها ، لا يقفها عند دلالة تاريخية ومحلية ، وإنما يجاوز بها إلى الكلي والعام الذي يغدو رهان مقروئية الرواية وقيمتها الإبداعية ، ويدرجها في عداد القراءة النقدية للتاريخ التي تستحيل إلى نقد للهوية ومفاهيم تكوينها الشوفينية. ولم تقتصر علاقة رواية (اليهودي الحالي) بالتاريخ ، في اختيار خلفية تاريخية لأحداثها في زمن يسبق تاريخ كتابتها بأكثر من ثلاثة قرون ، بل تبدو علاقة أخرى لها بالتاريخ ، في محاكاتها للمؤلفات التاريخية في التراث الإسلامي ، التي تتشارك في أسلوب التاريخ الحولي ، ومن أمثلة ذلك تاريخ الطبري (224-310ه) وتاريخ ابن الأثير (555-630ه) وغيرهما. وهي طريقة تدوّن الأحداث على تاريخ السنين ، وتربط بين السنوات بعبارة: (ثم دخلت سنة كذا) أو (ثم جاء في سنة كذا) ... وما يشبهها. وقد استطاع ابن الأثير أن يجاوز بهذه الطري قة ما كان يحدث فيها من تمزيق للحادثة التي تمتد في عدد من السنين ؛ وقال للتنبيه على ذلك: (فجمعت أنا الحادثة في موضع واحد ، وذكرت كل شيء منها في أي شهر أو سنة كانت ، فأتت متناسقة قد أخذ بعضها برقاب بعض). طريقة ابن الأثير هذه هي طريقة اليهودي الحالي في رواية أحداثه التي تغدو تاريخاً لعلاقته بفاطمة وما ينشأ عن ذلك من علاقة بالشخصيات الأخرى والأحداث الاجتماعية في تتابع زمني يصل إلى نحو 80 عاماً، تبدأ هكذا: (ودخلت سنة أربع وخمسين وألف في ما يؤرخ به المسلمون للزمن). ثم تتواتر العبارات التي تتداخل مع عبارات ابن الأثير والمؤرخين المسلمين ، مثل: (وفيها) أي وفي السنة نفسها ، و (مرت أشهر وأيام) (ص44) و (في هذه السنة مضت الأيام في أحداث لا تنتهي) (ص91) (ودخلت سنة 1077ه) ... إلخ. وهذه العلاقة التي تجمع رواية (اليهودي الحالي) بتاريخ ابن الأثير والطبري وغيرهما ، تبدو نوعاً من المعارضة التي تندرج لدى جيرار جينيت في ما أسماه تجاوز النص Transtextuality (وترجمته العربية الأكثر شيوعاً التعالي النصي) ويخص هنا ما تقيمه الرواية من علاقة مع تلك الكتب التاريخية ، من زاوية التقليد والتحويل لها hypertextualiity. وإذا عدنا إلى الرواية فسنجدها تنشئ من خلال علاقة المعارضة تلك ، توتراً مع الكتب التاريخية ، يمنحها غنى دلالياً ، ويخلق منها نصاً جديداً ، يتضمن المشاكلة للكتب التاريخية التراثية ويختلف عنها في الوقت نفسه. وقد تحقق للراوي في الرواية بذلك قدراً من تلبس لبوس المؤرخ التراثي ، وتقمص شخصيته ، ومن ثم الانتماء إلى فضاء نصه الجامع على وجه المعارضة والمحاكاة. لكن إبراز بطولة المرأة في الرواية ، واستدارتها على حدث الغرام بين مختلفين في الدين ، وما ينتج عن ذلك في أطروحة الرواية من الدعوة إلى قيم التسامح والسلام والاحترام والتعايش المشترك ، ومن تمثيل مآسي الآخر المختلف في المجتمع ، يجعلها مغايرة لمادة الكتب التاريخية التراثية ، ومصادمة لها ، فالتاريخ في تلك الكتب هو تاريخ الرجال ، والبطولة الغالبة هي بطولة ذكورية مقرونة بالقتال والحروب ومدارها على الانفراد بالسلطة والقيادة والثروة ، بحيث تغدو العصبية التي يتأسس عليها إنتاج السلطة وتداولها لحمة التاريخ وسداه ، والضد لما تترامى إليه الرواية.