في عرفات يتجرد الواقفون عن المظاهر، ولا يبقى سوى السرائر والضمائر، حيث تتعلق الأفئدة بما يملأ عليها منافذها، فتهوي الدنيا بزخرفها وزينتها ويغدو البياض وحده المشهد البارز للعيان. هناك الوقوف شعيرة لا تكاد تأتي لكثيرين إن أتت إلا مرة واحدة في العمر فهي جديرة بأن تأخذ بالإحساس وبالوجدان ليعانقا ما وراء المحسوس وما هو أبعد من الوجدان. لمن يلبسون الإحرام أكثر من فرصة في غير عرفات في سعي وطواف، ولأن لعرفات ويومها وأهلها خصوصية الزمان والمكان والوجدان يباهي الله سبحانه بهم ملائكته ويشهدهم على مغفرته ذنوبهم وعودتهم غانمين وقد فازوا بنظرة من رب رحيم. وقفة من لم يشهدوا عرفات هي صيامهم وهو توقف في حد ذاته الذي احتسب الرسول (عليه الصلاة والسلام) أنه يكفر سنة ماضية وسنة آتية، وذاك مغنم عظيم، وقد تتعلق نفس كريمة بأكثر من ذاك فتسعى في تفطير صائمين يحتاجون إلى من يتقرب إلى الله بهم، فيكسب من أعوام تغفر له فيها الذنوب ربما ما يزيد عن أعوام عمره. يعود الحاج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويغنم الصائم غير الحاج مغفرة عامين كاملين، وفي سبيل تحصيل المغنمين هناك جهد ومشقة لكنها دون الجائزة بآماد. هذه تربية روحية بدنية مالية ترتقي بالمسلم في درجات الإتقان فيعرف قيمة التضحيات وما تحتاج إليه من صبر واحتساب ومن مودة وإخاء ومن نفقة وإحسان ومن روح فريق يغلب على سلوك أفراده الإيثار وإنكار الذات.